الصفحات
الصفحة الرئيسية
كتب
مقالات
أبحاث
الثلاثاء، 6 يناير 2015
العمارة كظاهرة انثروبولوجية
العمارة كظاهرة أنثروبولوجية
في علم الجيولوجيا يعني مصطلح "التنسيب" مقارنة طبقات الارض ببعضها بغية معرفة زمن نشوئها وعلاقاتها ببعض عند رسم خارطة جيولوجية لمكان معين. وربما كان من المناسب استعارة هذا المفهوم في مجال العمارة لعله يفيدنا في رسم اركيولوجيا معرفية ان صح التعبير، حسب اصطلاح ميشيل فوكو، للذهاب الى ما هو ابعد من مجرد قراءة وصفية لتاريخ وهوية العمارة. عندئذ يمكن الانطلاق في البحث عن اسس عريضة لإرساء مفاهيم جديدة في العمارة تنسجم مع واقع وثقافات الدول العربية والاسلامية.
وعلى رغم توافر بعض الدراسات الحديثة التي تحاول سبر اغوار العمارة العربية والاسلامية بأسلوب ومنهج مبتكر فإنه يغلب على معظم الدراسات المتداولة نظرتها للعمارة كمبان قائمة تنتمي الى حقب تاريخية معينة، وهذا امر بديهي بلا شك.
في العرف المدرسي السائد هناك ثلاث مراحل مرت بها العمارة في الدول العربية والاسلامية وهي العصر المبكر، العصر العباسي والدويلات الدائرة في فلكه، وعصر الامبراطوريات، على رغم تداخل هذه الازمنة التاريخية في كثير من المناطق، مع ما يترتب على ذلك من نتائج يجب ان تؤخذ في عين الاعتبار. وبالامكان التفرع في هذا التصنيف مكاناً وزماناً وصولاً الى مبان محددة في ازمان محددة ايضاً ودرسها بناء على هذا الاساس. وبطبيعة الحال فان هذه الدراسات قد تكون كافية اذا اقتصر هدف الدارس على الجانب الإعلامي او السرد التاريخي للعمارة. الا ان الذهاب الى ماهو أبعد من ذلك يتطلب اساليب جديدة تعمل على تفكيك هذه العمائر والحقب التاريخية والظروف التي انتجتها ومن ثم اعادة بنائها معرفياً بغية فهم أوسع لها تمهيدا لبناء هوية معمارية ماضية وحاضرة تستند الى اساس معرفي متين.
لعله من المفيد هنا ابراز بعض سمات العمارة في الدول العربية والاسلامية وكذلك التطرق الى بعض الجوانب التي قد تشكل مفتاحاً مهماً لفهم ما غمض منها. في البداية هناك مسحة انسانية نسبة الى الانسان كجسم ذي ابعاد ثابتة تتخذ مقياساً للبناء تميز عمائر الدول العربية والاسلامية. انها عمارة ذات ابعاد انسانية ففراغاتها منخفضة وبالإمكان ملامسة اسقفها بالقليل من الجهد كما انه من الممكن الإحاطة بكامل فراغاتها ان لم يكن بالنظر فبالحركة على الاقل. كما ان الزخارف والمنمنمات الجدارية والكتابات تقرب هذه الصورة كثيراً الى الاذهان. كما ان الحواضر العربية عادة تبنى كنسيج عضوي يشبه تعرقات اوراق الاشجار. بطبيعة الحال فإن هناك استثناءات لعل من ابرزها العمائر العثمانية التي ربما كان لتجاورها الجغرافي لاوروبا سبب في ذلك. كما ان هناك اختلافات اقليمية تفرضها عوامل الجغرافيا والمناخ. الامر مختلف تماماً في العمائر الاوروبية مثلا حيث الفراغات الفسيحة الشاهقة الارتفاع التي يتضاءل معها حجم الانسان هي السمة المميزة. كما ان الحواضر الاوروبية تتبع نظاماً متعامداً في تخطيطها. ونظراً الى هذه المرجعية التي يحتلها الإنسان في عمارته يتضح لنا مدى اهمية الدراسات الانسانية التي تتناول هذا الجانب.
هذا على مستوى الفرد وعلى مستوى الأبنية فرادى. الا انه بالإمكان ايضا قول الشيء نفسه عن النسيج العمراني وعن المجتمع ككل، فبالامكان تصنيف العمارة العربية والاسلامية الى عمائر اقوام وجماعات وهذا هو التصنيف المتبع حالياً ولكن على اساس زمني وليس انسانوي. ولقد اسهب ابن خلدون في مقدمته في التأكيد على دور العصبية في نشوء واندثار الدول، وعلى رغم عدم اتيانه على العمارة كمصطلح محدد بدقة الا انه يستشف من كتاباته ان العمارة هي في صلب تفكيره وهو يستعيض عنها بالعمران لكونه مفهوماً اشمل. معروفة هي افكار ابن خلدون في هذا المجال الا ان ما تجدر الاشارة اليه هو الاهتمام الذي يوليه للناس وخلفيتهم التاريخية والثقافية والعلاقات الاجتماعية والعرقية بينهم، واثر ذلك على حركة ازدهار العمران. انه بهذا يؤسس لمنهج اجتماعي وانثروبولوجي لدراسة العمارة باعتبارها الصورة الابرز للحضارة.
تطرح افكار ابن خلدون الكثير من التساؤلات حول كيفية ولادة ونشوء ثم انهيار الحواضر والعمائر العربية والاسلامية، وكواحد من هذه التساؤلات تأتي مسألة استمرارية او عدم استمرارية العمارة في الدول العربية والاسلامية ابان تاريخها الطويل حتى انتهت الينا بالصورة التي نعرفها حالياً. ان اعطاء اجابة واضحة عن مدى استمرارية او عدم استمرارية تطور العمارة العربية امر في منتهى الاهمية. ويبدو انه من الصعب اعطاء اجابة شافية من واقع ما تجود به العمائر الباقية الى الآن او بقايا علم الآثار، الا إنه بالامكان قراءة هذه العمائر في ضوء الحقائق التاريخية الثابتة. وفي منهج كهذا تعود الكلمة الفصل فيه بطبيعة الحال للمؤرخين وعلماء الآثار.
هناك ايضاً مسالة انثروبولوجيا العمارة، اذ مارس معظم الشعوب العربية والاسلامية الرعي والتنقل طلباً للكلأ والزراعة قبل واثناء نشوء الممالك العربية والإسلامية. وأثرت هذه الانشطة الاقتصادية بطرق غير مباشرة في شكل العمارة الا انه ليس من الواضح بعد كيفية ومدى هذا التأثير. لعل ازدهار الزخارف المعمارية دليل على ذلك. وتعتبر هذه الزخارف احدى اهم الجوانب التي تميز العمارة في الدول العربية والاسلامية، وبالرغم من التفسيرات التي تعطى لها الا ان جذورها مستمده من فنون الحياكة والبسط والسجاد التي كانت تمارسها هذه الشعوب قبل واثناء انتقالها الى الحواضر. انى اتجه المرء بنظره الى هذه الزخارف وهي تزين العمائر يقف مندهشاً لمدى التشابه الدقيق بين النقوش المعمارية والسجاد تحديداً حتى ليخال اليه انه يقف امام منسوجات معمارية. فقد تم تحويل الاسطح المعمارية مستطيلة كانت ام منحينة الى اسطح زخرفية بتفاصيل غاية في الدقة. لقد عوضت هذه الزخارف عن صغر الفراغ المحيط بالبناء واعطت انطباعاً بالكبر والاتساع والاستمرارية بين مختلف جهات البناء. يشعر المرء نتيجة لذلك بأنه لا يزال على اتصال وثيق بجذوره حيث كانت بيوت الشعر والبسط واللحف تشكل عمارته قبل سكناه للحضر، وبالتالي أوجدت عنده نوعاً من الاستمرارية بين عمارته الجديدة وماضيه السابق، ولذلك أتت هذه العمارة منسجمة مع واقعه الاقتصادي والاجتماعي الذي يعيشه. ونظراً الى ان معظم الشعوب العربية والاسلامية تشابه في خلفيتها الاقتصادية والاجتماعية فقد اضفى ذلك نوعا من الانسجام والوحدة بين العمائر في شرق العالم العربي والاسلامي وغربه، يبقى الانتقال من حياة الرعي والترحال الى حياة الزراعة والاستقرار ومن ثم الى سكنى الحواضر والعيش في كنف الدولة وبناء العمائر أمراً بالغ الأهمية في معرفة التسلسل الذي مرت به عملية البناء.
تعتبر اللغة مفتاحاً لا غنى عنه لمعرفة تاريخ العمران العربي. وتزخر دواوين الشعر والادب العربي المكتوب منه والموروث شفهياً بالكثير من الجوانب التي تساعد في التأسيس لمنهج يقوم على اللغة كمصطلحات للتعرف على كثير من جوانب العمارة العربية، ولنا في ما تجود به كتب التراث مايغني عن الكثير من الكلام والتنظير في بعض الامور التي اشغلت الكثير من الباحثين. ولربما كان اخفاق بعض المستشرقين في كتابة تاريخ العمارة العربية والاسلامية - بالرغم من غزارة انتاجهم - عائداً الى عدم التمكن من ناصية اللغة والامثلة كثيرة في هذا المجال. وتتضح اهمية المنهج اللغوي اذا ما عرف عن العرب انهم اناس شديدو الفصاحة ولهم ولع وفخر باللغة. بطبيعة الحال فإن تعدد المناهج اللغوية سيضفي تنوعا من شأنه ان يزيد من معرفتنا بجوانب كثيرة ليس في تطور العمارة فقط ولكن في مهاراتنا اللغوية كذلك.
وعلى نفس القدر من الأهمية تأتي الجغرافيا ودورها في التعرف على اسرار العمارة العربية والاسلامية. ان العناصر المعمارية التي تعرف بها العمارة العربية والاسلامية هي عناصر جغرافية الانتشار اكثر منها تاريخية. فالعقد المدبب مثلاً لا يبارح مشرق العالم الاسلامي فيما يقتصر القوس على هيئة حدوة الفرس على المغرب العربي وبلاد الاندلس. كما ان الرواشين وملاقف الهواء هي من نتاج مناطق متجاورة جغرافيا ذات مناخ حار رطب. وبالامكان ذكر العديد من الامثلة في العديد من المناطق. وربما كان ذلك امراً طبيعياً ايضاً، فسعة الرقعة الجغرافية للدولة وانضواء الكثير من الأعراق تحت لوائها وفي ظل كيان سياسي وثقافي واحد دفع بالتباينات الجغرافية الى الواجهة في تشكيل ملامح العمارة العربية خلال تاريخها الطويل. وقد يصبح بالامكان القول ان العمارة العربية عبارة عن تلاقح جغرافي مدفوع بأسباب تاريخية.
ان جدية الطرح في البحث عن هوية اصيلة للعمارة المعاصرة تستدعي جدية الطرح في اعادة درس العمارة في الجامعات العربية حيث تدرس العمارة في اقسام او كليات للهندسة ينظر اليها وكأنها نتاج هندسي تقني لا يتم التطرق فيه الى الجوانب الانسانية الا نادراً. وتاريخ العمارة هو اقرب الى ان يكون من اختصاص الآثاريين. بطبيعة الحال فإن الجانب الهندسي في العمارة في غاية الأهمية ولكن ليس على حساب الجوانب الإنسانية، فالعمارة كانت وما زالت ابداعاً انسانياً محضاً. اما في الدول التي قطعت شوطاً بعيداً في هذا المضمار فتعتبر كليات العمارة جزءاً من كليات العلوم الانسانية مع ما يعنيه ذلك من دراسة العمارة كنشاط انساني، وفي هذا يكمن الفارق بين النتائج المترتبة على هذين الاسلوبين. لا يستغرب والحال هكذا ان تصبح معرفتنا عن العمارة وتاريخها احادية الجانب كما لا يستغرب ان تصبح مبانينا غريبة عنا وأن نفقد هويتنا معها لأن هذه النظرة تدفع بنا الى هذا الاتجاه. وهذا جانب في حاجة الى جل الاهتمام من الاكاديميين والمختصين في هذا المجال.
تطوير التراث ام توطين الحداثة
قد لا تثير الحداثة في العمارة - عند غير ذوي الاختصاص - الكثير من الجدل كما هو الحال عادة عند الخوض في غمار الأدب. ربما يعود ذلك الى تصدر الادب والشعر خصوصاً لكافة ضروب التعبير الثقافي. فالشعر ديوان العرب كما هو معروف. أو لعله عائد إلى ضبابية الرؤيا التي تسود نظرة الناس اجمالاً للعمارة، أو ربما الى غياب روح النقد الضرورية لتطوير وبناء عمارة عربية حديثة. ومهما كان السبب وراء ذلك فإن معرفة موقع العمارة العربية بالنسبة لتيار العمارة العالمي لأمر جدير بالأهمية.
الحديث عن العمارة الحديثة هو حديث عن فترة تاريخية نادرة في تاريخ العمارة عموماً. ولدت العمارة الحديثة في اوائل هذا القرن وانتشرت بسرعة على ايدي عدد من المعماريين الغربيين معظمهم من القارة الاوروبية. وبالرغم من تعدد الاسماء الرائدة التي اسهمت في بروزها الا ان هناك شبه اجماع على ان ليكوربوزييه يحتل مركز الريادة في العمارة الحديثة. لقد بدأت العمارة الحديثة قوية وبأفكار جديدة كلية مما أكسبها زخماً لا يقاوم إبان ظهورها، واستمرت كذلك لفترة من الزمن. الا انها كسائر الحركات التاريخية المفصلية اصابها الجمود والدوغمائية مما حدا بالكثير من اعضائها الى الانفصال عنها وشق اتجاهات مستقلة اخرى اتخذ كل منها مسمى خاصاً به. وبالرغم من ان مصطلح ما بعد الحداثة قد حل محل الحداثة عند كثير من المعماريين والنقاد والعامة منذ اوائل السبعينات، الا ان العمارة الحديثة كجملة من المبادئ والأفكار ما فتئت تجدد ثوبها باستمرار.
في الظروف الراهنة التي تمر بها العمارة العربية قد تكون الاسس والمبادئ التي اتت بها العمارة الحديثة تحديداً كما عرفت على أيدي الرواد هي الأقرب الى العمارة العربية لأسباب عدة تنطلق جميعها من حقيقة ان العمارة العربية التقليدية تلك المتعارف على أنها عربية المنشأ ما زالت على حالها. العمارة الحديثة هي مفصل تاريخي تم فيه نقل العمارة من طور الى طور جديد ومختلف كلية عن سابقه. وبالتالي فقد يكون فيها من الدروس والعبر ما قد يفيد المعماريين العرب المعاصرين لإيجاد نوع من الاستمرارية مع عمارة الأمس العربية وعمارة اليوم مجهولة الهوية. لا يعني ذلك نقل العمارة الحديثة كما هي قلباً وقالباً فهذا مشروع محكوم عليه بالفشل كما أثبتت التجارب ذلك، ولكن لا مناص من استيعاب مبادئ العمارة الحديثة واعادة انتاجها توطينها محلياً في قالب يناسب معطيات وواقع الدول العربية.
لقد عرفت المجتمعات الصناعية تطوراً تدريجياً قاد بالتالي الى الحداثة وما بعد الحداثة. وبالإمكان رسم خط بياني واضح يصور الانتقال الحتمي من العصور النهضوية المتأخرة وبزوغ فجر الحداثة. لكن الوضع يختلف في الدول ذات البنى والعلاقات الاجتماعية المختلفة ايضاً، كالدول العربية والإسلامية ودول العالم الثالث عموماً مما يجعل من عملية التوطين هذه أمراً ملحاً.
وازاء الاحتمالات غير المحدودة لأشكال واساليب البناء التي جلبتها العمارة الحديثة انزوت العمارة التقليدية الى ان تلاشت شيئاً فشيئاً لتحل محلها النماذج المستوردة من الغرب. ونظراً للفارق الكمي والنوعي بين العمارة التقليدية والحديثة ونظراً للمرجعية الثقافية المختلفة كلية بين الاثنتين فإن هذه النماذج لم تعبر عن مضمون العمارة الحديثة مما نتج عنه عمارة ليس بها من الحديث في العمارة سوى الاسمنت والحديد اما الجوانب المهمة الاخرى التي هي في صلب العمارة فقد غابت تماماً. وكنتيجة حتمية لذلك وفي خضم الانفلات العمراني السائد في هذه الدول منذ عقود بدأ التفكير بجدية في مدى تلبية العمارة المستوردة لما هو اكثر من مجرد البناء والمتانة ورتابة الوظيفة. وسرعان ما تبلور مفهوم الهوية المعمارية. وبالرغم من ان هـــذا المفهوم يحمل الكثير من التفسيرات الا انه في هذا السياق هنا معماري صرف.
تتعدد صور التعبير عن الهوية المعمارية ومحاولة ايجاد استمرارية تاريخية بين عمارة الامس وعمارة اليوم. يتمثل الاسلوب الاكثر انتشاراً اليوم في تطوير التراث. غالباً ما ارتبطت الهوية كمفهوم وفي ظل الممارسة العملية السائدة اليوم بالشكل واصبحت كمنهج تعني إلصاق بعض العناصر التقليدية بالمباني الحديثة او نقل مبان تقليدية بكاملها لتواكب استخدامات جديدة وبمواد بناء جديدة كلية لتحقيق احساس بالانتماء المزدوج. غالباً ما تم انجازه هو الاشارة الى الماضي عبر هذه العناصر والاشكال موضع التسجيل. هنا الذاكرة فقط والحنين الى الماضي هي التي تعمل عمل الهوية. اما الجوانب العديدة الاخرى وثيقة الصلة بالبناء فإنها لا تلقى الاهتمام الكافي. يأتي الفراغ - لب العمارة وجوهرها - في مقدمة عناصر التصميم التي كثيراً ماتم اهمالها عند التطرق لمفهوم الهوية. ان عدم الاهتمام بالفراغ الداخلي في التأكيد على الهوية المعمارية امر جدير بالمناقشة. ويبدو ان لذلك علاقة مباشرة بمفهوم الشكل والفراغ والعلاقة المتلازمة بينهما في عمارة المجتمعات العربية، حيث يولي الناس والمعماريون كذلك الشكل الخارجي اكثر من اهتمامهم بالفراغ الداخلي. هذا لا يعني اهمال الداخل ولكن نادراً ما يتم التعامل مع الفراغ كعنصر فاعل يحدد بدرجة كبيرة، ليس شكل البناء وهويته فقط، ولكن سلوك الانسان وارتياحه أو عدم ارتياحه من عمارته. ولعل تهدم واندثار الكثير من العمائر التي قد تشكل فراغاتها مصدراً للهوية إما بسبب تقادم العهد او بسبب الحروب او لأسباب اخرى لم يتح الفرصة للتعرف على كيفية عمارة الفراغات الداخلية في هذه العمائر. وما يعانيه الفراغ من اهمال تعانيه ايضاً انظمة التهوية والاضاءة وكذلك سلوك الناس الحركي والنفسي تجاه عمائرهم. وبطبيعة الحال عندما يتم التغاضي عن هذه المكونات التي لعبت دوراً حاسماً في تكوين العمارة التقليدية فلن تكون النتائج مشجعة بالقدر المأمول بالرغم من جدية هذا الطرح. وقد أدرك كثير من المعماريين قصور ذلك المنهج وبدأوا في اتباع اساليب اخرى في الاشارة اما الى هوية اصيلة بطرق جديدة او باتباع هوية حديثة كلية هي الآن في تطور مستمر.
اما الاسلوب الاخر فيستند الى مبدأ ان كل هوية معمارية اتت كنتيجة للتقنية المتبعة في بنائها. واذا ما عرفنا ان التقنيات المستخدمة في البناء اليوم هي تقنيات حديثة وما بعد حديثة فإن الهوية الناتجة عنها ستكون بالضرورة حديثة. ولأن هذه المواد هي مواد وافدة فان العمارة الناتجة عنها ستكون بالضرورة كذلك. وبالرغم من ان هذه العمارة تفتقر الى عنصر الذاكرة والحنين الذي يختزنه التراث الا انه بالإمكان القول ان هذه العمارة ذات انتماء محلي ما دامت قادرة على الاستجابة للمعطيات الجغرافية والثقافية للمكان واصحابه مع ما يعنيه كل ذلك من تفاصيل. وبمرور الوقت ستنشأ علاقة حميمة بين الإنسان وعمارته الحديثة تلك وستصبح بمرور الوقت وتكيفها مع الواقع عمارة محلية. فالهوية وخصوصاً في عصر ثورة الاتصالات والانتاج بالجملة ناهيك عن عصر الصناعة وما بعده هي في طور التشكل والتجديد، وربما يأتي اليوم الذي يصبح فيه الحديث عن الهوية ليس فقط المعمارية بل الهوية عموماً حديثاً غير ذي معنى.
وفي خضم التنافر بين الوافد والمحلي ربما كان هناك اسلوب ثالث يوفق ما بين الاسلوبين في تطوير التراث او توطين الحداثة الا وهو التجريد. ان تجريد العمارة المحلية بكل ما تحويه من مفردات الى كتل وعناصر واشكال جمالية وفراغات باستخدام المواد الحديثة سيعمل على ردم الهوة بين التقليدي والحديث. كما ان الطابع التجريدي اصلاً للعمارة المحلية سيسهل من هذه المهمة ويجعل من التجريد كأسلوب استمرارية تاريخية وعضوية لتاريخ العمارة. ولنا في الاعمال المحلية في بعض الدول العربية التي نالت اعــترافاً دولياً خير مثال على ذلك. تبقى كيفية التجريد هذه وآلياتها عملية فردية بحتة تختلف من شخص لآخر وفي ذلك مدعاة لتعدد الحلول الباحثة عن الهوية ضمن هذا الاسلوب.
يدرك المتمعن في تاريخ العمارة ان الانتقال من مرحلة الى اخرى يستلزم المرور بمرحلة انتقالية تجمع بين خصائص المرحلة السابقة واللاحقة يتم فيها الانتقال التدريجي للعمارة بين المرحلتين. ومن الصعب فهم العمارة الحديثة بشتى مدارسها من دون فهم تاريخ الحركات الفنية الحديثة التي واكبت تطورها. من هذه الحركات تبدو الحركة التجريدية بكامل اتجاهاتها عاملاً مهما في نشوء وارتقاء العمارة الحديثة. لقد عمل التجريد كجسر لعبور العمارة من طورها النهضوي والكلاسيكي بكافة اشكاله الى عمارة حديثة اختفت فيها الخطوط المنحنية لتحل محلها الخطوط المستقيمة، وافسحت العقود والاقواس المجال جانباً لعناصر انشائية جديدة قوامها الحديد والخرسانة، واختفت المنمنمات لتحل محلها عناصر وأسطح ملساء مجردة من كل زخرف، واخترعت مقابل ذلك لغة جديدة بالعمارة لوصف هذه التطورات اصبحت معها كلمات مثل "الطراز" و"الديكور" غريبة في القاموس الجديد للعمارة الحديثة. ان مقارنة بعض اعمال بيكاسو وبراك وموندويان وغيرهم من ذوي النزعة التكعيبية ببعض اعمال ليكوربوزيه وميس فاندرو لكفيلة بتبيان العلاقة الأكيدة بين التجريد والعمارة الحديثة كما ابتكرها هؤلاء الرواد. بل ان اعمال ليكوربوزيه نفسه هي تجسيد معماري لبعض لوحاته التجريدية التي رسمها في فترة مبكرة من حياته.
بطبيعة الحال فإن تحولات على هذا المستوى من الادراك ستبقى معزولة ومحدودة التأثير اذا ما تم عزل العمارة عن شقيقاتها من الفنون الاخرى كالحركة التشكيلية والتي ربما تكون قد تجاوزت بكثير شقيقتها الكبرى العمارة في تجاوبها مع أشكال الهوية. كما ان الخط العربي وفنون السجاد والحياكة والمسكوكات المعدنية هي مصادر من شأنها ان ترفد تيار الهوية اذا ما تم وصلها بالعمارة. ان بتر العمارة عن منظومة الفنون هذه وتغليب النظرة التقنية البحتة عليها قد ساهم في صعوبة الخروج بهوية اصيلة، كما صعّب من مهمة ايجاد حلول للهوية المفقودة. وعلى كل حال ومهما كان حال العمارة في الدول العربية اليوم وسواء كان تطوير التراث ام توطين الحداثة والتوفيق بينهما هو الاسلوب الانجع فإن هوية العمارة ليست ولم تكن هماً عربياً فقط.
العمارة اليابانية واستجابتها
لمطلب الهوية
لعله من المفيد في هذا السياق التطرق الى التجربة اليابانية والى طريقة تعاملها مع مطلب الهوية، وبالرغم من انتقائية مثل هذا الطرح الا ان اليابان كمجتمع شرقي مختلف في مرجعيته الاجتماعية والثقافية عن الغرب مصدر الحداثة قد يساعد على بلورة موقف لايجاد حلول وطرق جديدة يمكن الاستفادة منها في بناء المدن والحواضر العربية اليوم. ان التجربة اليابانية في العمارة نظراً للـــمكانة المميزة التي وصلتها لجديرة حقاً بالدراسة.
عند احتكاك اليابان بالغرب في مطلع القرن الحالي تباينت المواقف حيال العمارة الحديثة فبالرغم من استيراد عمارة الغرب كما هي في البدء الا ان ذلك سرعان ما قوبل بالمعارضة وبرز اتجاه يوفق بين العمارة الوافدة من الغرب والتقاليد المعمارية اليابانية، وذلك يعني القبول بالتقنية الغربية لانتاج مبان يابانية الملامح. اثناء ذلك كان هناك تيار من الانفصاليين تأثروا بالوظيفية وتبنوا ما يسمى بالطراز الدولي. وفي تلك الفترة ايضاً برز عدد من المعماربين أهمهم ميكاوا الذي يعتبر رائد العمارة الحديثة في اليابان وقد نادى بإعادة انتاج العمارة التقليدية اليابانية بأسلوب عصري ولأن افكارة تلك كانت سابقة لعصره فقد تم تجاهله في الاوساط الرسمية لكون أعماله حسب هذه الاوساط تفتقد الى الروح اليابانية. وفي منتصف الثلاثينات انهارت العمارة الحديثة الوليدة في اليابان وقد كان ذلك طبيعياً لظروف الحرب التي شهدتها البلاد. واثناء الحرب العالمية الثانية ازدهرت النزعة الوطنية في العمارة وامتد تأثير ذلك الى المناطق التي اخضعها اليابانيون لسيطرتهم لفترة قصيرة في شرق آسيا. ونظراً لظروف تلك المرحلة وما صاحبها من توسع فقد اتسمت عمارتها بالتناقض. وبعد خمس سنوات من نهاية الحرب عادت العمارة الحديثة للظهور في اليابان من جديد بقوة وبأسماء وصور جديدة. وظهر ساكاكورا في البداية وهو من تلاميذ ليكوربوزيه كرائد لها وقد برزت افكار هذا الأخير في أعمال تلميذه. ومن الطريف انه في الوقت الذي كانت اليابان تبني عمارتها الحديثة في هذه الفترة فإن الغرب كان قد بدأ لتوه في رفض الحداثة - في الجانب الجامد منها - والانتقال الى ما بعدها.
كانت المنازل والعمائر السكنية عموماً هي نقطة انطلاق نحو انبعاث العمارة التقليدية في اليابان بعناصرها المختلفة، ويلاحظ في هذا السياق سهولة نقل العناصر المعمارية التقليدية في اليابان الى العمارة الحديثة. ان العناصر والمصطلحات التقليدية المعمارية في اليابان هي في انسجام تام مع متطلبات العمارة الحديثة. فالحوائط الخشبية المنزلقة التي تسهل من فصل وربط الفراغات ببعضها البعض، ووحدة البسط اليابانية تسمى الواحدة منها تاتامي التي تستخدم كمقياس لاحجام الغرف والمنازل وما ينتج عن ذلك من سهولة ايجاد نظام للقياس والانشاء، واستخدام الأغلفة والستائر، وكذلك فعالية النظام الانشائي التقليدي الذي يعتمد على الخشب هي مفردات يسهل التعامل معها حسب ما تقتضيه العمارة الحديثة. يوصف البيت الياباني على انه تنظيم فراغات وفي ذلك لوحده مفتاح الفهم الكلي لمعنى العمارة اذ ان هذا التعريف يصب في قلب العمارة الحديثة التي تولي الفراغ اهمية قصوى. كل ذلك جعل انتقال العمارة اليابانية الى العمارة الحديثة امراً في متناول اليد لدرجة ان المنزل التقليدي الريفي في اليابان يبدو وكأنه لوحة من اعمال موندريان. وبالطبع فلم يكن ذلك خافياً على الرواد الغربيين انفسهم فقد يمموا اوجههم شطر اليابان ونهلوا من معين عمارتها التقليدية. فها هو ميس فاندرو يستلم الغلاف والنظام الانشائي الياباني في مبانيه وها هو الفر التو يكثر من استخدام الخشب المعتق كأرضيات لمبانيه في اسكندنافيا وهاهو المهندس الايطالي نيرفي يستلم الاشكال التقليدية اليابانية المصنوعة من الخيزران لانتاج مبان هندسية عملاقة.
احتل كنزوتانغ مركز الصدارة بين المعماريين اليابانيين في عقد الستينات بأكمله وقد استهل هذا العقد بمجموعة من الأعمال التي عمد فيها الى بعث عناصر معمارية يابانية موغلة في القدم، وهو في هذا يؤكد على استقلالية النهج الياباني في العمارة الحديثة، وتعتبر المدينة الأولمبية في طوكيو 1964 ابرز اعماله في هذه الحقبة وهي تعكس التزاوج بين العمارة الحديثة والعمارة التقليدية في اليابان. ويعزى نجاح تانغ الى توفيقه بين طرفي هذه المعادلة. وبالرغم من الشهرة التي يتمتع بها تانغ الا ان بعض اعماله وخصوصاً المتأخرة منها في نظر الكثير من النقاد تشوبها السطحية.
ومع بداية جني ثمار الازدهار الاقتصادي في اليابان ظهرت انواع جديدة من البناء ذات وظائف متعددة الأغراض وصاحب ذلك احيانا صبغة تجارية تعكسها واجهات المحال التجارية حيث اصبحت واجهات المباني كلوحات عرض منتجات استهلاكية وقد اضفت عليها اضاءات الليزر بعداً تقنياً. ومع افول شمس العمارة الحديثة في الغرب برزت ثلاثة اتجاهات متميزة عن بعض شكلت وما زالت العمارة اليابانية المعاصرة وهي: الانشائية، الميتابوليزم، وعمارة المحتوى او السياق. وقد برز في كل من هذه الاتجاهات عدد من المعماريين. وتعتبر الانشائية اليابانية مشابهة في كثير من النواحي لمثيلاتها في الغرب مما يغني هنا عن الاسترسال في وصفها.
وتعتبر الميتابوليزم التي ما تزال بحاجة الى ترجمة عربية للمصطلح ابداعاً معمارياً يابنياً قحاً. ونشأت هذه الحركة على أيدي مجموعة كبيرة من المعماريين بزعامة كوروكاوا. وهي في حقيقة الامر تعتبر اضافة يابانية بارزة لتاريخ العمارة العالمي. تتلخص افكار هذه الحركة في ان الحاجات الاقتصادية السائدة في اليابان إبان تلك الفترة تستلزم تفكيراً جديداً يستوجب انشاء معمار جديد قوامه كبسولات من مواد معدنية يمكن تركيبها وفكها عند الحاجة في أبراج هي في تمدد مستمر نحو الاعلى. كما ان عناصر الاثاث هي معدنية وسابقة الصنع وكأنها استمرار للكبسولة - الغرفة التي لا تتسع لأكثر من شخص او اثنين. يأتي هذا النظام في انسجام مع الوضع الاقتصادي الاجتماعي حيث الفرد العامل الذي لا يحتاج لاكثر من بضعة اقدام مربعة تفي هذه الكبسولة باحتياجاته. كما ان ازدهار الصناعة اليابانية جعل من تصنيع وفك وتركيب هذه الكبسولات امراً اعتيادياً. كما ان للحركة امتداداً ايضاً في اساليب تخطيط المدن وانشاء بعض المشاريع العملاقة. حيث يشكل ضيق الجزر اليابانية واكتظاظ المدن بالسكان عوامل مساعدة شجعت على ازدهار هذا النمط من البناء.
أما الاتجاه الثالث فقد تبلور على أيدي عدد من المعماريين الذين نشأوا في رحم الميتابوليزم وابرزهم ماكي. وتعني عمارة المحتوى الأخذ بكافة الاعتبارات الفيزيائية والثقافية وبلورتها في قالب معين. من اهم صور هذا الاتجاه هو تدرج الفراغات وهي سمة رئيسية ليس فقط في عمارة اليابان التقليدية ولكن في عمارة جنوب شرق آسيا عموماً. ومنها ايضا تفكيك البرنامج المعماري الى كتل وفراغات اصغر، وكنتيجة لذلك فان العمارة اصبحت عملية تكوين لفراغات متدرجة بأساليب ومواد حديثة وليست مغالاة في استخدام التقنية كما هو الحال في الميتابوليزم. بل ويمكن حسب هذا الاتجاه تعميم صورته على المدينة لتصبح منزلاً كبيراً تشكل الميادين العامة فيها الغرف الكبيرة في هذا المنزل. ومن الواضح هنا ان هذا الاسلوب متزامن ومتوافق في افكاره مع المدرسة الواقعية في الغرب ولكن بهوية يابانية واضحة. وما زالت عمارة المحتوى تلقى المزيد من الرواج لواقعيتها في التعامل مع متطلبات الحداثة في نسيج ياباني. حالياً ربما كان اراتا اسوزاكي هو اشهر المعماريين اليابانيين وقد كان شريكا لكنزو تانغ في بداية حياته المهنية ولكنه مالبث أن أنشأ اتجاهاً خاصاً به. وتستمد عمارة اسوزاكي جذورها من أسلوب الوحشية التي مثلها بول رودولف في اواسط هذا القرن وهكذا كانت مبانيه المبكرة عبارة عن مكعبات واسطوانات وانابيب ضخمة من الخرسانة تتجاهل البعد الانساني، وقد بدت مبانيه في الفترة المبكرة وكأنها غير منتهية ويشوبها الغموض ولكن ما لبثت تتطور شيئاً فشيئاً حتى أنشأ اسوزاكي مدرسة خاصة به وهو يعتبر محدثاً في هذا المجال. فتارة يستخدم الأقبية المنحنية طولياً وتارة تكون مبانيه تجميعاً لاشكال منتظمة تارة وغير منتظمة تارة اخرى. ومهما كان الوصف الذي ينطبق على اعماله الا ان بقايا الوحشية ما زالت راسخة لديه. ولا زالت العمارة اليابانية تولد المزيد من المعماريين ذوي الاتجاهات المتباينة الذين لم تقتصر اعمالهم على حدود الجزر اليابانية بل ان اعمالهم تنتشر في كافة انحاء العالم.
هذه مقدمه طويلة اين منها مقدمة لمتكتب بعد لتاريخ العمارة الحديثة في الدول العربية وبطبيعة الحال فإنه باستثناءالسرد التاريخي لها لا يمكن فهم تفاصيلها بهذه العجالة بدون الأخذ في الاعتبارالخلفية الثقافية والتاريخية والاقتصادية والاجتماعية لليابان. الا انه يتضح لناان العمارة شأنها في ذلك شأن التعابير الثقافية الأخرى هي دائماً في تطور مستمر معمحيطها. وبلا شك فان تفرد التجربة اليابانية ليس مقتصراً كما نعلم على العمارة بلشمل كافة أوجه الحياة، مما يدل على ان التطور في العمارة يستلزم تطورات موازية فيشتى مناحي الحياة. لقد تفاعلت العمارة اليابانية مع معطيات العمارة الحديثة بأسلوبحافظت فيه على هويتها الثقافية مما يدل على ان التوفيق بين الاصالة والمعاصرة ليسترفاً فكرياً بل أنه امر ممكن وفي متناول اليد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
رسالة أحدث
رسالة أقدم
الصفحة الرئيسية
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق