السبت، 3 يناير 2015

الأنثروبولوجيا الأمريكية

شهد القرن العشرين مراحل تكوين الأنثروبولوجيا وتطويرها، لتصبح كياناً أكاديمياً ومهنة متخصّصة عند كثير من العلماء والفلاسفة والباحثين. فعلى الرغم من أنّ الفكر الأنثروبولوجي قد ظلّ خلال العقدين الأوليين من القرن العشرين، متأثّراً إلى حدّ بعيد، بالنظريات التي سادت وتبلورت في السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر، فإنّه سرعان ما تغيّر وتحوّل إلى منطلقات جديدة، نتج عنها اتّجاهات متعدّدة إزاء دراسة الإنسان وحضارته، سواء ما كان منها نظرياً أو منهجي ّو إنّ الاتجاه العلمي الذي نشط في القرن التاسع عشر، وتبلور في مجالات متعدّدة، دفع العقل الإنساني إلى نبذ الفكر الفلسفي الذي كان يتحفّظ على قدرة العقل الإنساني في التوصّل إلى الحقيقة المطلقة. وهذا ما نتج عنه قيم فكرية جديدة تدعو إلى النظر إلى العقل والمنطق المحسوس، والواقع الملموس كأدوات للمعرفة، كما تدعو إلى التفاؤل بمستقبل الإنسانية . إلاّ أن أحداث الحرب العالمية الأولى ونتائجها السلبية على المجتمع الإنساني، بدّدت هذا التفاؤل، وأحلّت محلّه النظرة التشاؤمية. وهذا ما بدا في نظرة الفلاسفة إلى مشكلات الإنسان في هذا القرن (القرن العشرين )، إلى حدّ اعتقاد بعضهم أنّ المستقبل صعب ومظلم مع ظهور النازية في ألمانيا، والفاشية في إيطاليا. وبرز مقابل هذا الاتجاه التشاؤمي، اتجاه آخر اتّصف بالتفاؤل، كان من أبرز رواّده في أمريكا الفيلسوف التربوي / جون ديوي / الذى أصدر كتابه الشهير " إعادة البناء في الفلسفة " وتبنّى فيه موقفاً صريحاً مناهضاً للفلسفة الميتافيزيقية .
ودعا فيه إلى ضرورة الاهتمام بالبحث عن القوى المعنوية التي تحرّك مناشط الإنسان، لاعتقاد/ ديوي/ أنّ لدى هذا الإنسان الكثير من الإمكانات والقدرات التي يمكنه بواسطتها الخروج من أزمته الراهنة ..
وكان للدين أيضاً تأثيراته في تشكيل الفكر الأنثروبولوجي في العقود الأولى من القرن العشرين، ولا سيّما على النظم الاجتماعية. إلاّ أنّ ذلك التأثير تضاءل أمام تعاظم التيارات التحرّرية وما رافقها من إنجازات علمية هائلة، الأمر الذي حدا بالكنيسة في بداية النصف الثاني من القرن العشرين، إلى تقبّل فكرة الحوار وحرية المناقشة في الأمور الدينية والدنيوية .. بعيداً عن الأساليب القمعية التقليدية . وهكذا، شكّل هذا العلم دعامة أساسيّة في ثقافة القرن العشرين عامة، وفي الفكر الأنثربولوجي خاصة، حيث كان وثيق الصلة بالفكر الاجتماعي والقضايا الإنسانية التي أسهمت في تحديد موضوعات الدراسات الأنثروبولوجية، ومناهجها وأهدافها

فمن الزاوية البايولوجيه  تتعامل الانثروبولوجيا (الجسدية) أو الفيزيقية  Physical anthropology  مع الإنسان كنتاج لعمليات التطور البايولوجيه وتهتم بطبيعة تركيب جسم الإنسان الفسيولجي والتشريحي ، وتحليل مقاييس الجسم البشري والسمات الفيزيقية للكائنات البشرية بمناهج كميه ، وتتبع مراتب الحياة العضوية مع التركيز  على دراسة أصول الأجناس البشرية وتطوراتها البايولوجيه وتصنيفاتها عبر العصور الجيولوجية المختلفة التي مر بها الجنس البشري ، واختلاف التراكيب العضوية والجسدية والتنوع السلالي للأقوام  البشرية ،وأسباب تباين تلك السلالات عضويا وفيزيقيا ومقارنة سمات الجماعات العرقية المختلفة ببعضها ، مع دراسة اثر الظروف والمؤثرات البيئية والايكولوجية في اختلاف أو تشابه  التراكيب الجسدية للعناصر البشرية ومدى قدرة تلك المجاميع البشرية على التكيف مع الظروف البيئية والايكولوجية، مستعيناً بذلك بدراسة المتحجرات والشواهد الدالة على تلك التطورات والتكيفات ، كالآثار المادية  وبقايا العظام والأسنان وغير ذلك من أدلة (3) .
وإذا كانت الانثروبولوجيا الثقافية   (Cultural anthropology)حقلاً يختلف عن ميادين الانثروبولوجيا الفيزيقية  بكونها تولي مفهوم الثقافة أهمية مركزيه وتتجه نحو الدراسات المقارنة لثقافات المجتمعات البشرية ودراسة السلوك اللغوي فيها واختلاف إدراك المفاهيم الرمزية بين جيل أو جماعة أو عصر وآخر ، فإنها لاشك أكثر التصاقاً بعلم اللغة الانثروبولوجي(اللسانيات) وعلم آثار ما قبل التاريخ ، وهذا ما تراه المدرسة الانثروبولوجيه الامريكيه التي لا ترى في الحقل الانثروبولوجي إلا فرعين فقط هما الانثروبولوجيا الطبيعية ، والانثروبولوجيا الثقافية التي تضم بدورها حقول معرفيه عديدة مثل (الاثنوغرافيا     Ethnography ، الاثنولوجيا    Ethnology، علم  آثار ما قبل التاريخ Archeology ، اللسانيات linguistics ،  الفولكلورFolklore  ، والانثروبولوجيا الاجتماعيةSocial anthropology ) ومصطلح الثقافة مصطلح شديد التعقيد، لذا لم يتفق علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا على تعريف واحد له، رغم شيوع استخدامه في كتاباتهم الكثيرة والمتنوعة، لدرجة أن عالما مثل ستيفان جيودمان ، الأستاذ بجامعة مينسوتا، يقول في أثناء المؤتمر الذي عقده البنك الدولي عن «الثقافة والعمل العام» إننا لو سألنا ألف شخص عن معنى الثقافة فالأغلب أننا سوف نحصل منهم على أكثر من ألف تعريف نظرا إلى اختلاف وتباين خبراتهم الخاصة. والواقع أن بعض الأنثروبولوجيين المعاصرين يرون أن مفهوم الثقافة قد «مات» وأن من الأفضل استبدال مفهوم التاريخ به، لأن الثقافة مفهوم يرتبط بالاستعمار وظهور فكرة القومية ومفهوم الدولة في الغرب. وبصرف النظر عن مدى صحة هذا القول الأخير، الذي لم يجد قبولا واسعا على أي حال، فإن «إعلان مكسيكو سيتي لعام 1982 عن السياسات الثقافية» يعرف الثقافة بأنها ذلك الكل المركب من الملامح الروحية والمادية والذهنية والوجدانية المميزة للمجتمع أو للزمرة الاجتماعية ، كما أن المفهوم يتضمن أنماط الحياة والحقوق والواجبات للكائن الإنساني، وأنساق القيم والتقاليد والمعتقدات، إلى جانب الإبداع الفني والأدبي والفكري. وهذا تعريف يكشف عن مدى تعقد المفهوم وشموله واتساع مجاله، وهذه خاصية تتفق علىها كل التعريفات التي تعتبر الثقافة حصيلة كل النشاط البشري الاجتماعي في مجتمع معين مما يعني في آخر الأمر أن لكل مجتمع ثقافته الخاصة المميزة بصرف النظر عن مدى تقدم ذلك المجتمع أوتخلفه ، أي أنها كلها تعريفات لاتحمل أي مضامين تقويمية، وإن كانت تعترف في الوقت ذاته بأن لكل ثقافة نسقها الخاص من المعايير والقيم. في عام 2000 أصدر المفكر الأمريكي صامويل هنتنجتون كتابه «Culture Matters»، الذي قوبل بترحاب شديد من الأوساط الثقافية في أمريكا، بحيث عُقِد حوله عدد من الندوات والمؤتمرات لمناقشة الدور الذي تلعبه الثقافة في تشكيل المجتمع الإنساني، وتحديد مستقبل العلاقات بين الدول، كما صدرت مجموعة من الكتب حول الموضوع نفسه، وقامت مدرسة فلتشر بإجراء مشروع بحثي بعنوان C.M. Research Project شارك فيه 65 باحثا وباحثة من 25 دولة، واستغرق ثلاث سنوات من 2002-2005. وقد استرشد المشروع بعبارة عميقة قالها دانييل باتريك موينيهان فحواها أن «الحقيقة الأساسية المهمة هي أن الثقافة، وليست السياسة، هي التي تحدد وتقرر نجاح وتقدم المجتمع». فالثقافة تتفاعل مع التنمية في أكثر من مجال وبأكثر من طريقة، سواء في ما يتعلق بتحديد الأهداف أو اختيار مجالات ووسائل وطرق التنمية، وإن كان من الصعب صياغة ذلك أو ترجمته في نظريات فاصلة
وقد ذهب عالم الأنثروبولوجيا البريطاني برونيسلاف مالينوفسكي إلى أن الثقافة وحدة منظمة تنظيما عاليا، تعكس مظهرين متكاملين يتمثلان في وجود نسق من المصنوعات أو الأشياء المادية، ونسق من العادات والأفكار والتقاليد ، بينما يرى عالم الأنثروبولوجيا الأمريكي كليفورد جيرتز أن الإنسان حيوان معلق في شبكة من المعاني التي غزلها هو نفسه حول نفسه، وأن الثقافة هي هذه الشبكة وأن تحليلها ليس من مهام «العلم التجريبي» الذي يبحث عن القوانين العلمية، ولكنه مهمة «العلم التفسيرى» الذي يبحث عن المعنى. وبالمثل يرى رويتر أن الثقافة «تشمل الأدوات والمعدات التي ظهرت وتطورت نتيجة جهود الإنسان المتواصلة لإشباع احتىاجاته، وما يرتبط بذلك من مشاعر وتوجهات وميول معقدة، وكذلك الأبنية المنظمة، وما إلىها من وسائل وأساليب الضبط التي تهدف في آخر الأمر إلى إقرار النظام الاجتماعي وانتشار نماذج السلوك المقنن ، كما يدخل فيها أيضا النظريات الخاصة بتفسير الكون تفسيرا فلسفيا، التي تساعد على فهم الحياة وتسهيل المعيشة بشكل أو بآخر». وقد ذهبت بعض الاتجاهات إلى قصر الثقافة على الأفكار والتصورات المجردة، على أساس أن كلمة «ثقافة» ذاتها توحي بذلك، ولكن هذا الرأي لايلقى ترحيبا من معظم علماء الأنثروبولوجيا الذين قاموا بدراسات ميدانية واتصلوا عن كثب بالثقافات التقليدية، بحيث أمكنهم أن يلمسوا الملامح والسمات الثقافية المختلفة في تداخلها وتفاعلها، وأدركوا بالتالي صعوبة، بل وعبثية الفصل بين مظاهر السلوك العادية المشخصة والملموسة، وبين الأفكار والتصورات والقيم التي تختفي وراء ذلك السلوك. وقد ذهبت عالمة الأنثروبولوجيا الأمريكية روث بنديكت إلى أن كل ثقافة - أيا كان مدى انتشارها- تؤلف وحدة متمايزة، وأن النظم التي توجد في هذه الثقافة تعكس نمطها الخاص المعين وتعبر عما تسميه «النوايا» أو «الأغراض» الثقافية المتعلقة بذلك المجتمع بالذات، أكثر مما تعبر عن الحاجات البشرية العامة، وهذا هو مبدأ النسبية الثقافية ، كما عرفت تلك النظرية باسم الصيغة الثقافية العامة، على أساس أن كل ثقافة تسيطر علىها اتجاهات عامة شاملة تطبعها بطابع خاص يميزها عن غيرها.(4)
 لقد تطور منهج الانثروبولوجيا التطبيقية أو الانثروبولوجيا العملية Action anthropology   في الولايات المتحدة الامريكيه بعد الحرب العالمية الثانية وظهور حاجة البلدان المتقدمة تقنياً إلى التدخل في سياسات الاداره والتنمية في العالم الثالث ،الأمر الذي ربط هذا الحقل بالتخطيط السياسي وعرض نهجه إلى انتقادات عديدة بوصفه امتدادا طبيعياً للاستعمار الجديد أو وكأنه نوعاً من ممارسة العلاقات العامة في تكريس التبعية والتخلف  والتغاضي عن المشكلات الحقيقية للجماعات المحلية   بما يخدم مصالح طبقة معينه أو الطبقة المسيطرة وتقليص الدور الحقيقي للسكان المحليين  .وكانت التطبيقات الانثروبولوجيه المبكرة قد نمت في مجال الاداره الاستعمارية أصلاً،  الأمر الذي أساء كثيراً إلى سمعة التدريب الانثروبولوجي وجهد الفعل التطبيقي لهذا الحقل  . فقد استخدمت الانثروبولوجيا التطبيقية مبكراً في تحديد الزعامة المحلية  وفي إدخال أنماط من الاداره المحلية بما يقلص من التوترات بين الجماعات المختلفة في المجتمعات البدائية . ففي اندونيسيا على سبيل المثال تم تقنين القانون القبلي  بحيث أصبحت القوانين تتلاءم مع الظروف المحلية وتختلف من قرية لأخرى . (6)
لقد أوضحت بعض دراسات التثقيف أن إحداث تعديلات –ولو كانت  طفيفة- ( خاصة حينما يتم إحداثها عن طريق القوه أو تحت الضغوط )  يؤدي إلى صراعات نفسيه عميقة  وظهور سلوك عصابي لدى بعض  الإفراد ،. وفي بعض الحالات قد تنسحب تلك الإعراض على كل أو اغلب  إفراد المجتمع فتظهر مظاهر اضطرابات اجتماعيه ملحوظة  أو كامنة ، ما لم تساند تلك الجهود التثقيفية برامج علمية تتسم بالواقعية تأخذ بنظر الاعتبار العلاقات المتبادلة بين الجوانب- المختلفة للثقافة المحلية وضروب و أنماط التكيف المحتملة. ودون شك فإننا محليا في العراق نستطيع توظيف الفعل الانثروبولوجي والاستفادة من المعرفة الانثروبولوجيه في دراسة وتحليل ما تعرضت له الشخصية الوطنية من إرهاصات وتوترات نفسية واجتماعيه نتيجة برامج التثقيف الإيديولوجي غير المبرمجة  انثروبولوجيا ، وما تمخض عن تلك البرامج والسياسات من آثار سلبيه انعكست على الواقع الاجتماعي في العراق قبل وبعد سقوط النظام السابق وكما ظهر جلياً من ممارسات سلوكية أعقبت إحداث عام 2003 ولازالت بعض آثارها تتحكم بالفعل السلوكي والاجتماعي في المجتمع العراقي.
وقد قام ويلجن بمراجعة بعض الفروع الجديدة في الانثروبولوجيا التطبيقية التي انبثقت عن مواقف نظريه وإيديولوجيه مختلفة فوجد أنها تتخذ مسارات مختلفة ، منها مثلا مسار  الانثروبولوجيا  العملية التي اقترحها سول تاكس ، مسارانثروبولوجيا البحث والتنمية التي ترمز لمشروع جامعة كورنيل في بيرو،  واتجاه انثروبولوجيا تنمية المجتمع المحلي ، والاتجاهات الأكثر حداثة فيما يعرف بانثروبولوجيا الدعوة والوساطة الثقافية  وصولا نحو مايعرف اليوم بالانثربولوجيا النقدية والانثروبولوجيا الماركسية  والانثروبولوجيا البصرية  والانثروبولوجيا الايكولوجية ثم الانثروبولوجيا الدبلوماسية ، وفي البلدان النامية  توجهت التطورات الحديثة في مجال الانثروبولوجيا  نحو إزالة التقسيم الفكري بين الانثروبولوجيا النظرية والانثروبولوجيا التطبيقية  في إقرار ضمني  على إن الجهد التطبيقي والتدخل الانثربولوجي  في تحديث وتنمية المجتمعات المحلية  لابد أن  يعتمد صراحة على معايير وتوجهات إيديولوجيه وسياسيه . ولعلي ادعو لتنشيط الفعل الانثروبولوجي في العراق والتخطيط لبرنامج ونهج انثروبواوجي جديد تراعى فيه ظروف المجتمع العراقي ،أطلق عليه اسم (انثروبولوجيا إعادة بناء المجتمع)،  وستكون خطوطه الرئيسة العامة متضمنة في القسم الثاني اللاحق من هذه الدراسة


 أنشا الانثروبولوجيا أكاديمية في الولايات المتحدة في معارضتها لهذا النوع من منظور تطوري. كان منهجه التجريبي، التشكبك في التعميم المتسرع، والتنزه عن محاولات وضع قوانين عالمية. على سبيل المثال، درس بواس الأطفال المهاجرين لإثبات أن السباق البيولوجي ليست منيعا، وسلوك الإنسان هذا ناتج عن التنشئة، بدلا من الطبيعية وتأثر بواس بالتقاليد الألمانية، وجادل بأن العالم كان الكاملة للثقافات مختلفة ، بدلا من أن تطور المجتمعات التي يمكن أن يقاس بمدى أو كم هو قليل "الحضارة" لديهم. كان يعتقد أن لكل ثقافة أن تدرس في خصوصيتها، وجادل بأن عبر التعميمات الثقافية، مثل تلك التي تقدم في العلومالطبيعيةثانية، لم يكن هذا ممكنا.
وهو يفعل ذلك، كان قد خاض التمييز ضد المهاجرين والسود، والشعوب الأصلية في الأمريكتين. العديد من علماء الأنثروبولوجيا الأمريكية اعتمدت جدول أعماله من أجل الإصلاح الاجتماعي، ونظريات سباق يستمر المواضيع الشعبية لعلماء الأنثروبولوجيا اليوم. ما يسمى "اربعة الميدانية النهج" اصولها في Boasian الأنثروبولوجيا، وتقسيم الانضباط في المجالات الأربعة الحاسمة ومتشابكة من اجتماعية وثقافية وبيولوجية، واللغوية، والبالية الأنثروبولوجيا (أي علم الآثار). الأنثروبولوجيا في الولايات المتحدة ما زالت تتأثر بشدة التقليد Boasian، ولا سيما تركيزها على الثقافة









كانت البداية في جامعة هارفرد حيث يروي كوون في سيرته الذاتية كيف أن حبه للمغامرة ولسبر أغوار المجهول  جعلاه يداوم على محاضرات في الأنثروبولوجيا لأستاذه إرنست هوتن، والذي كانت حكاياته عن الشعوب والحضارات  الإفريقية تستهوي كوون، وخاصة تلك المتعلقة بذلك الشعب الريفي في شمال إفريقيا "ذي الملامح الاسكندنافية والمتعطش للدماء". كان هوتن متخصصا في شعب الغوانتشي بجزر الكناري، ولم تكن له معرفة عميقة بالريف. ونجده في تقديمه لأحد أعمال كوون يستغرب كيف أن الريفيين لم يقتلوا كوون ويحتفظوا بزوجته. سيكتشف كوون لاحقا بأن ما كان يسمعه عن الريف كان في الكثير من الأحيان نتيجة المبالغات التي لا تخلو منها الصور النمطية. قرر كوون وهو مازال طالبا السفر إلى الريف والتعرف على سكانه. فشد الرحال إلى هناك للمرة الأولى سنة 1924، لكن رحلته في المغرب والتي ابتدأت في الدار البيضاء مرورا بفاس انتهت عند مشارف تازة حيث لم يستطع استكمالها حتى الريف، بسبب ظروف الحرب بالدرجة الأولى. ينتمي كوون إلى عائلة عريقة ومعروفة بمحاربتها للاستعمار البريطاني فكان بالتالي متشبعا بقيم النضال والحرية من الاستعمار، مما جعله يفكر جديا في محاربة الإسبان والفرنسيين إلى جانب الريفيين، لكن رحلته الأولى هذه تطورت بشكل مغاير لينتهي به المطاف في مراكش حيث يروي كيف أنه ذات مرة لاذ بالفرار بين أزقة المدينة هربا من بعض الحمادشة بعدما ضبطوه وهو يصورهم في جامع الفنا.
كانت رحلة كوون الثانية للمغرب السنة الموالية أي في 1925، وقد بدأها من طنجة فتسنى له أن يرى الريفيين لأول مرة عندما لجأ كثيرون منهم إلى هناك هربا من جحيم الحرب وطلبا للاستشفاء. كان كوون مهتما بدراسة الملامح والصفات العرقية للشعوب شأنه في ذلك شأن أستاذه إرنست هوتن، ويندرج ذلك في إطار ما يسمى بالأنثروبولوجيا الطبيعيةPhysical anthropology (التي يعتبر الآن كون وهوتن من أبرز منظريها)، فبدأ بحثه بتصوير وجوه بعض اللاجئين الريفيين ودراسة خصائصها ومقاييسها ، لكنه لم يتسن له الذهاب إلى الريف أيضا هذه المرة بسبب المرض. وفي السنة الموالية أي في 1926 تزوج كوون بماري غوديل وكانت ابنة عائلة معروفة بضباطها الذين حاربوا في الحرب الأهلية الأمريكية وكذلك ضد الهنود. كانت امرأة محبة للمغامرة هي أيضا وكانت في العشرين من عمرها، أما كوون فقد كان ابن الثانية والعشرين. ومباشرة بعد زواجهما، سافر الإثنان إلى المغرب، حيث استطاع كوون هذه المرة الوصول إلى الريف بعد أن كانت الحرب قد شارفت على نهايتها خاصة وأن ابن عبد الكريم كان قد استسلم. كان شهر عسل –كما يصفه كوون- غير عادي ومحفوف بالمخاطر، نظرا للتجارب والمغامرات الفريدة التي عاشها هو وزوجته.
استقر كوون وزوجته في قبيلة إهروشن بكزناية. وقد استمر مقامه هناك وبحوثاته الميدانية حتى سنة 1928، وهي السنة التي حصل فيها على شهادة الدكتوراه من هارفرد. وقد تكللت هذه الدراسة بمؤلف ضخم تحت عنوان "قبائل الريف" Tribes of the Rif 1931. شملت هذه الدراسة جوانب مختلفة من الحياة الريفية بما فيها الجوانب الثقافية والطقوس والمعتقدات الدينية والمؤسسات الاجتماعية. لكنها فوق كل ذلك تميزت بدراسة الصفات العرقية والمورفولوجية التي كانت الشغل الشاغل لكوون في كل رحلاته عبر العالم، فنجده قد أفرد ملحقا خاصا ومطولا بالصور لوجوه من مختلف القبائل الريفية ومن مناطق أخرى في المغرب من أجل دراستها ومقارنتها. وقد اصطحب كوون معه محمد المنبهي في رحلة العودة إلى أمريكا، حيث ساعده هذا الأخير في جمع المادة العلمية وتصنيفها. ويقول كوون بأنه لولا المنبهي لما رأى الكتاب النور يوما ما. كان المنبهي كما يصفه كوون بمثابة "المترجم، والمساعد في البحث، والحارس الشخصي والديبلوماسي المحنك".

وقد شرح كوون نظريته هذه في كتابه المهم والمثير للجدل "أصل الأعراق" The Origin of Races 1962. من بين ما أثار الجدل في هذه النظرية هو أنها تعني بالضرورة أن ثمة أعراقا أكثر حضارة وتطورا من أعراق أخرى لأنها مرت إلى الإنسان الحديث قبل مثيلاتها، وهو ما يشرحه كوون قائلا أن العرق الزنجي مثلا قد تطور مائتي ألف سنة بعد العرق القوقازي، وهو ما اعتبره كثيرون طرحا ذا بعد عنصري، خاصة في خضم الجدال المعروف تقليديا بين جامعة هارفارد بتوجهها العرقي في الأنثروبولوجيا وجامعة كولومبيا في نيويورك بتوجه كان يميل إلى الإيمان بالنسبية الثقافية. وقد أدت الانتقادات الشديدة التي كان يوجهها أكاديميو كولومبيا لكوون إلى أن يستقيل هذا الأخير من منصبه كرئيس للجمعية الأمريكية للأنثروبولوجيا الطبيعية. حري بالتذكير أيضا أن هذه الفترة أي أوائل الستينات عرفت تنامي حركة الحقوق المدنية والتي أعطت للتاريخ زعماء أمثال مارتن لوثر كينغ ومالكوم إكس. وقد كان أعداء هذه الحركة من اليمين المتطرف أو حركات التفوق الأبيض المعادين لأية مساواة بين البيض والسود يستغلون كل ما من شأنه أن يحول ضد إقرار هذه المساواة فكان أن وظفوا نظرية كوون في الأعراق للاستدلال على أن السود أحدث تطورا في سلم الحضارة وبالتالي فهم لا يستحقون منحهم نفس الحقوق كالبيض. لم يثبت أي دعم لهذا الطرح من طرف كوون لكن سكوته قد تكون له دلالاته أيضا.
يمكن اعتبار كون آخر الأنثروبولوجيين الطبيعيين، لكنه قد يكون أيضا آخر الأنثروبولوجيين الموسوعيين، إذ شملت أبحاثه وكتاباته الأنثروبولوجيا الثقافية وعلم الآثار وعلم الإستحاثةPaleontology، بالإضافة إلى الإنتاج الأدبي وبالتحديد في مجال ما يسمى بالرواية الإثنوغرافية، أي الرواية التي تستمد موضوعها ومادتها من المعطيات المتوفرة حول ثقافات الشعوب وتقاليدها، بل إن كوون كان من الرواد القلائل لهذا النوع من الرواية. وإنه ليس من الغريب أن يكون موضوع الروايتين الوحيدتين اللتين أنتجهما كوون في هذا المضمار هو الريف والحياة الريفية، أولا برواية "لحم الثور الجامح" Flesh of the Wild Ox 1932، ثم بعد ذلك برواية "الريفي" The Riffian 1933. لقد كان كوون يشعر بتعلق شديد نحو الريف وقد كتب ذات مرة أنه كان يستطيع فهم لغة الريفيين وحديثهم حتى في أيامه الأولى في الريف لأن عقله وعقل الريفيين يعملان بنفس الطريقة. كتب كوون ما مجموعه عشرون كتابا في الأنثروبولوجيا الطبيعية والثقافية وعلم الاستحاثة والآثار والإثنوغرافيا وأدب الرحلة والسيرة الذاتية والرواية، وقد اعتبر نفسه مشدودا عاطفيا إلى الريفيين أكثر من أي شعب آخر قام بدراسته. يقول كون في سيرته الذاتية: "إن ما كتبته حول الريف لا يمكن مقارنته بأي شيء آخر كتبته بعد ذلك لأنني كنت ريفيا".




انطلق مورغان في تحليله لأنظمة القرابة من واقعة لاحظها لدى الايروكيز الذين عاش معهم واطلع على حياتهم بشكل واسع. لقد كان نظام القرابة السائد لدى الايروكيز متناقضاً مع علاقاتهم العائلية الفعلية”.. ففي الوقت الذي لم يكن فيه شك في حقيقة الأشخاص الذين كانوا آباءهم وأمهاتهم وبناتهم وإخوتهم يسميهم مورغان (بحسبانه أوروبي يعتمد النظام الوصفي للقرابة) أعمام وخالات … إلخ. وكان أبناء العم المتوازين يعدون عند الايروكيز أشقاء وشقيقات، وكان أبناء العم المتصالبون (أي المتحدرون من أخوات الأب ومن إخوة الأم) هم وحدهم الذين يسمون بأبناء العم. ولقد تولدت لدى مورغان القناعة، بعد استقصاء ومراجعة أكثر من 250 قائمة بمصطلحات القرابة عبر العالم بأسره، بأن التناقض المميز لنظام القرابة لدى الايروكيز موجود أيضاً في الهند وفي أمريكا الشمالية. ولتفسير هذه الظاهرة العامة افترض مورغان أن نظام القرابة يتطابق مع شكل عائلي منقرض يمكن إعادة بنائه فيما لو تم التوصل إلى فك لغز ذلك النظام. كان هذا التناقض تعبيراً عن السرعة المتفاوتة لتطور الأسرة، العنصر الحركي الفعال، ولتطور أنظمة القرابة، العنصر السالب المنفصل.












هناك تعليق واحد:

  1. الخط غير واضخ لااستطيع القراءة يرجى الكتابة بخط عادي مع الشكر

    ردحذف