الثلاثاء، 30 ديسمبر 2014

علاقة علم الآثار بعلم الأنثروبولوجيا


يصعب الحديث عن تطور علم الآثار بفروعهكعلم واحد وبالتالي عن علاقة هذه الفروع بالعلوم الأخرى، وذلك بسبب تطور فروع علمالآثار باستقلال عن بعضها البعض زمانياً، ومكانياً أحياناً، والحال نفسه ينطبق علىعلم الأنثربولوجيا بفروعه المتعددة. إلا أن فرع عصور ما قبل التاريخ في الدراسات الأثرية هو مفتاحالعلاقة مع فرع الأنثربولوجيا الثقافية في الدراسات الأنثربولوجية حتى أنه ليصعبالتمييز بينهما في المجال النظري، وكذلك يُدرس فرع عصور ما قبل التاريخ في الكثير من الجامعات ضمنالأنثربولوجيا الثقافية ، حيث أن نظام التدريس في كندا والولايات المتحدة الأمريكيةوالاتحاد السوفيتي السابق يعتبر علم الآثار أحد فروع الأنثربولوجيا الثقافية،ولهذا سنتتبع فرع عصور ما قبل التاريخ من علم الآثار، مع أن بقيةفروع علم الآثار تستخدم النظريات الثقافية والاجتماعية، من الأنثربولوجيا وفرعالمعرفة الأخرى، وإن يكن بشكل غير مُعلن وممنهج، كاستخدام مصطلحات الطبقات مثلاً،ذو الأبعاد الاجتماعية.1- علم الآثار :-بقيتعملية محاولة فهم الماضي البشري لفترة طويلة تعتمد النصوص الدينية والتاريخية أساساً، حتى بعد فترة من"انتظام" عملية جمع الآثار وما حققته من تقدم بصدور عدة مؤلفات (شبه علمية)تعنى بالمواد الأثرية وترتبها وتصنفها، منها ما أصدرهW.Camden فيما سماهBritannia في العام 1586م والذي صنف فيه الآثار في بريطانيا وخاصةالرومية منها واستخدم لأول مرة الرسوم التوضيحية ، وفي العام 1744 قام E.Pontoppidan بأول حفرية "صحيحة" في أوابد (Megalithic) قبر في الدنمرك ليستخلص منها أن المدفونين ليسواعمالقة . إن أولى المحاولات المُعلنة لتفسير الأدوات الحجرية على أنها من صنعالبشر والتعرض لنشوء البشر بشكل "علمي" وبما لا يتفق والتفسيرالمثيلوجي-الديني السائد في القرن السابع عشر بات بالفشل، فقد تراجع الفرنسي I. La Peyrère عن فرضيته "الما قبل آدميين" بعد أناستتابته الكنيسة وأحرقت كتبه ، هذا وقد سبق للإيطالي M.Mercati تفسير الأدوات الصوانية على أنها من صناعة بشر قدماء وذلك ضمنكتابه "المعدنيات" في القرن السادس عشر إلا أن كتاباته لم تنشر حتىالقرن الثامن عشر .تبعذلك محاولات عدة في فهم الماضي البشري منها ما قام به الفرنسي J. B. de Perthes بتحديد الأدوات الصوانيةكمنتجات ما قبل تاريخية وما أكده لاحقاً الجيولوجيالبريطاني C. Lyel وذلك بربطه بقانون التنضدالطبقي (law of superposition) الذي لم يلقى قبولاً فيالبداية وكانت الجيولوجية قبله لازلت تفسر وجود الطبقات الأرضية بقصة الطوفان، ولمتحدد فترات زمنية لهذه الطبقات ، وكان بعد اكتشاف أمريكا أن أشار بعض المهتمينومنهم F.Imperato في كتابه " التاريخ الطبيعي" عام 1599م. لكونسكان القارة الأمريكية لا زالوا يستعملون للأدوات الحجرية، وبالتالي من الممكن أنذلك كان في أوروبا أيضاً، وهذا يعتبر منالمحاولات الأولى في استخدام الإثنوغرافيا (فرعالانثروبولوجيا لاحقاً) في التفسير الأثري،وأيضاُ في العام 1699م. كتب E.Lhwgdأنرؤوس السهام، الحجرية (المنسوبة للجنّ حينها) تماثل ما يصنعه أهل New England وإنها أدوات صيد وليست نتيجة الصواعق وأكد العديدمن الفرنسيين منذ 1717م. أن الأدوات الحجرية تمثل عصراً حجرياً، منهم J.Lafitau 1724 الذي كتب "عادات البدائيين الأمريكان مقارنةمع عادات الأزمنة المبكرة" أراد فيه كما يتضح من العنوان دراسة"المجتمعات البدائية" لفهم ماضي المجتمعات الحديثة، وفي العام 1738م. كتبالفرنسي A.Gorguet " أصل القوانين والآداب والعلوموتطورها وسط الشعوب الأقدم عهداً"، أشار فيه إلى استخدام البرونز قبل الحديدوالقبل ذلك الحجر والعظام للأدوات، وأن "البشر البدائيين يقدمون لنا صورةصادقة للمجتمعات القديمة" وكان لنظام العصورالثلاث (الحجري والبرونزي والحديدي)، الذي طبقه الباحث التاريخي الدنمركي C. J. Thomsen عام 1819م في تصنيف المواد الأثرية، وخرج به J. J. a. worsaae عام 1843م إلى الحقل واثبتتعاقب العصور في الواقع، دوراً في فهم تتابع مراحل الحياة البشرية .كماترسخ هذا النظام عندما أضاف عليه الأنثروبولجي البريطاني J.Lubbock عام 1865م تقسيمات فرعية في العصر الحجري وهي العصر الحجري القديم (Paleolithic) الذي ميزه بتقنية الطرق،والعصر الحجري الحديث (Neolithic) الذي ميزه بتقنية الصقل ، إلاأنه ظهرت اشكاليات لهذا النظام من حيث تعميمه وعدم كفايته في الكشف عن الخصوصيةالثقافية لبعض المواقع الأثرية، ما دفع الباحثينH.Christy مع Lartet عام 1861م. لإصدر أول نظامتحقيب لعصور ما قبل التاريخ معتمدين المؤشرات الاحفورية،لاحقا عام 1867م. قام الباحث في ما قبل التاريخ الفرنسي L. L. G. de Mortillet بتقسيم وتحقيب عصور ما قبل التاريخ في مجموعة كبيرة من الثقافاتبتسميات آثارية (نحو مواقع الكشف) لا زال بعضها مستخدماً (مثل الموستيريةوالآشولية) أما عن التقسيم اللا تقني فقد كتب E.Tylorفيالعام 1881م. كتاب "الأنثربولوجيا: مقدمة في دراسة الإنسان" مقترحاًثلاث مراحل افتراضية للماضي الإنساني (الوحشية والبربرية والمدنية) وعمل على شرحكل منها، وأضافL.H.Morgan أن نظام العصور الثلاث (التقني) كان مفيداً لتصنيف الأدوات،أما لفهم الماضي فقد قدم سبعة نماذج مفترضة تعتمد على موارد الاقتصاد، واعتبرهاتشمل المجموع الإنساني مع بعض التفاوت الزمني، وقد اعتمد F.Engels فيكتابه " أصل العائلة" 1884 م. على أعماله إن مشكلتي التأريخ والتغيرالحضاري (محلي أم خارجي) في أوروبا كانت الشاغل للآثاريين الأوربيين في القرن 19، واعتماداًعلى أبحاث J. J. a. worsaae الذي فسر الانتقال بين العصوركان نتيجة انتشار شعوب من جنوب شرق أوروبا شمالها، ظهرت أفكارالانتشار والغزو ومقارنة اللقى الأثرية لتصبح القاعدة في تفسير عصور ما قبل التاريخ .وظهرتالآراء التي تركز على التطور الذاتي المتوازي للثقافات، ومن منظريها الأنثروبولوجيالألماني A.Bastein، الذي استخدم تعبير التطور "ما فوق العضوي supra organic " مؤكداً على وجود قانون عاميحكم التطور البشري، هذه الفرضية التي طورهاL.H.Morgan، واعتمدها F. Engels ونقلها للماركسية كتب O. A.Montelius في العام 1899م. كتاب "الشرق وأوربا" رافضاً فرضية التطورومؤكداً أن الشرق (بلاد الرافدين ووادي النيل) هي مصدر الحضارات، وهكذا بقيالاتجاهان التفسيريان (تعدد المراكز، ووحدة المركز) متعايشان معاً في القرن التاسععشر .2- الأنثروبولوجيا :-أما الانثروبولوجيا فكانت بدايتها (شبه المنظمة)في القرنين 15 و 16 م. مع الرحالة والمكتشفين للمجموعات البشرية غير الأوربية وما سمي حينا بالمجتمعات"البدائية أو المتوحشة"، فقد جمعوا معلومات وملاحظات وصنفوها مثل ما قامبه الفرنسي الأب جوزيف لافيتو في النصف الأول من القرن الثامن عشر، الذي استنتج أن"التنظيماتالاجتماعية عند الإيروكيز تساوىالتنظيمات البدائية لبنى الإنسان. واكتشف لافيتو وجود تشابه بين النظام الأموميعند الإيروكيز مع ذلك النظام ما قبل التاريخي الذي وصفه هيرودوت (480-425ق.م.) عند سكان ليكيا في آسيا الصغرى. ولكون لافيتو حاول تفسير وجود هذا التشابهباحتمال انتشار هذا النظام من آسيا الصغرى إلى أمريكا فإنه يجوز عد لافيتو منأوائل القائلين بمبدأ الانتشار الثقافيdiffusion of culture "(النور؛ شلابي). إلا أن أعمال المستكشفين ما لبثتأن استقرت في أيدي الفلاسفة والباحثينالاجتماعين ليدرسوها ويستنتجوا منهاأشكال التنظيمات الاجتماعية وتعقيداتها. منها ما قدمهجيامباتستا فيكو (1668-1744) عن دورة التغيير الاجتماعي، والفيلسوف الفرنسي شارل دىمونتسكيو (1689-1755) عن الحتمية الجغرافيا في التغير أشكال الاجتماع البشري، وتتابعت النظيرات فيتطور الحياة الإنسانية فخلال 30 عاماً من العام 1857 حتى 1890 صدرت مجموعة منالكتب ساهمت في بلورت الأنثروبولوجيا.وفيالنصف الثاني من القرن التاسع عشر (مع المد الاستعماري الأوربي) جرت محاولات"منظمة" لفهم المكتشفات الأثرية بمقارنتها بالبنى الحياتية للمجتمعاتالمصنفة "بدائية"، انطلاقا من افتراض هذه المجتمعات كنوع من"المتاحف الحية" وتمثل مرحلة "طفولة" للمجتمعات الأوربية، وكذلك مجال لاختبارالاستنتاجات والفرضيات حول تقدم وتعقد المجتمعات (النور؛ شلابي)، كما أشارالبريطاني R.L. Fox 1851 م. الذي درس تطور الأسلحةالنارية وصنفها بتتابع تسلسلي(Seration) تطوري محاكياً خطا الآثاريين، وأدخل مصطلح التصنيف وفقالخصائص(typology) وركز على أهمية الدراساتالاثنوغرافية لعلم الآثار .العلاقةبين علم الآثار وفروع الأنثربولوجيا :- 1- علم الآثار والأنثروبولوجيا الاجتماعية :إندراسات الأنثروبولوجيا الاجتماعية التي تهتم بدراسة المجتمعاتالبشرية وبُناها وأنساقها، تشكل دعامة مهمة لعلم الآثار في تفسيره لمادته الأثريةالتي تنشأ في حالة اجتماعية ما وتتأثر بها وتؤثر بها أيضاً.2- علم الآثار والأنثروبولوجياالحيوية(الفيزيقية) :كونالنوع الإنساني له تاريخ تطوري بيولوجي كشفت عنهالدراسات الأنثروبولوجيا الطبيعية فبالتالي إن المخلفات الأثرية المرتبطة بالتسلسلالتطوري للبشر تشكل حلقة وصل بين العلمين، ويتضح هذا في أدوات الهومواركتوسوالنيدرتال والعاقل، وفي هذا المجال نجد الآثاري الأنثروبولوجي يعملان في نفسالحفرية، فاللقى البيولوجية للإنسان يدرسها الأنثروبولوجي واللقى الدالة علىالنشاط الإنساني (مصنوعات، رسوم، آثار استيطان) يدرسها الآثاري ، كما تواصلت هذهالعلاقة بشكل لا أساس علمي له، وذلك في دراسة الأنثروبولوجية للسلالات البشرية مابعد الإنسان العاقل ومحاولة المفاضلة بينها وربط الآثار المميزة والحضارة بسلالات بشرية معينة.3- علم الآثار والأنثروبولوجياالثقافية :كونعلم الآثار معني بالكشف عن الماضي الثقافي للمجتمعات الإنسانية وهذا الموضوع هونفسه جزئ مما تتناوله الأنثروبولوجيا الثقافية في دراستها لثقافة المجتمعاتالإنسانية في الماضي والحاضر، وقد نتج عن العلاقة بين العلمين منطلقات بحث مشتركةيمكن تعداد منهاالتركيزعلى ما يتكرر في السلوك الإنساني وليس على الحالات الفرديةمحاولةالكشف عن وجود وحدود ظاهرة الانتشار الثقافيالاهتمامبالعامل البيئي وتأثيره على الثقافةوضعفرضيات وتخمينات لفهم وتفسير الثقافةمنضمن علاقة علم الآثار بالأنثربولوجيا يمكن الحديث عن فرع4- الاثنوأركيولوجيا :(Ethnoarchaeology): وهي تجميع معطيات اثنوغرافيةبهدف تقديم مساعدة للتفسير الآثاري ومقارنة هذه المعطيات مع المعطيات الأثرية،والاثنوغرافيا هي دراسة المجموعات الاثنية المعاصرة، من خلال خصائص تلك المجموعاتالمادية، والإجتماعية، واللغوية . إلا أنالاثنوغرافيا هي الأنثروبولوجيا في الدراسات الفرنسية والأوربية والأنثروبولوجيا هي علومواسعة تهتم بدراسة الإنسان، وهي علم يشمل كل من الاثنوغرافيا والاثنولوجيا التيتهتم بدورها بتطوير "نظريات حول العلاقات بين خصائص المجموعات الاثنية وحولأسباب الاختلافات بينها. اتجهت الاثنولوجيا للاهتمام بالشعوب الأمية الأقلتعقيداً، تاركة بالتالي المجتمعات الصناعية المعقدة complexindustrial societies للسوسيولوجياsociology، والجغرافيا geography" ، وكماكتب في العام 1981م. G.Danial " وفي أمريكا توجد اليوم جماعات المايا والهنودالأمريكيين، أمثلة حية لسجل الأثري، وربما كان هذا هو سبب إصرار الأمريكيين على أنعلم الآثار إنما هو أنثروبولوجية.... الدراسات الاسكندنافية الرائدة للثقافةالشعبية في شمال أوروبا قدمت أمثلة أثنوغرافية حيةكانت ذات فائدة عظيمة لعلم الآثار ".إنالالتقاء بين علم الآثار وفروع الأنثروبولوجيا ينطلق من دراسة علم الآثار للإنسان(من مخلفاته) بوصفه كائناً اجتماعياً، وهنا يتلاقى علم الآثار مع الأنثروبولوجيا الاجتماعية، وللإنسان سلوك وأساليبحياتية في الماضي والحاضر تتطور بالتلاؤم مع المحيط، يستنتجها ويدرسها علم الآثار،ويتلاقى بذلك مع الأنثروبولوجيا الثقافية، كتب الآثاري البريطاني R. E. Mortimer Wheeler الذي عمل في بريطانية وأيضاًاشتهرت أعماله الأثرية في الهند 1943م يقول " إن الآثاري لا ينقب عن أشياء،إنما ينقب عن شعوب" والإنسان أصلاً كائناً بيولوجياً له مسيرة بيولوجية تتكشففي بقاياه العضوية ويهتم بها علم الآثار ويتلاقىبذلك مع الأنثروبولوجيا الفيزيقية، أما من ناحية الأساليب فهنك فرع الأثنواركولوجيالوسيط بين العلمين، وأما في المجال النظري فنظريات الثقافة هي نفسها في علميالآثار والأنثربولوجيا .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق