يجمع الباحثون في علم " الأنثروبولوجيا " على أنّه
علم حديث العهد، إذا ما قيس ببعض العلوم الأخرى كالفلسفة والطب والفلك .. وغيرها.
إلاّ أنّ البحث في شؤون الإنسان
والمجتمعات الإنسانية قديم قدم الإنسان، مذ وعى ذاته وبدأ يسعى للتفاعل الإيجابي
مع بيئته الطبيعية والاجتماعية .
لقد درج العلماء
والفلاسفة في كل مكان وزمان عبر التاريخ
الإنساني، على وضع نظريات عن طبيعة المجتمعات البشرية، وما يدخل في نسيجها
وأبنيتها من دين أو سلالة، ومن ثمّ تقسيم كلّ مجتمع إلى طبقات بحسب عاداتها
ومشاعرها ومصالحها. وقد أسهمت الرحلات التجارية والاكتشافية، وأيضاً الحروب، بدور هام في حدوث الاتصالات المختلفة بين
الشعوب والمجتمعات البشرية، حيث قرّبت فيما بينها وأتاحت معرفة كلّ منها بالآخر،
ولا سيّما ما يتعلّق باللغة والتقاليد والقيم .. ولذلك، فمن الصعوبة بمكان، تحديد
تاريخ معيّن لبداية الأنثروبولوجيا.
أولاً-مفهوم
الأنثروبولوجيا
إنّ لفظة أنثروبولوجيا Anthropology، هي
كلمة إنكليزية مشتقّة من الأصل اليوناني المكوّن من مقطعين : أنثروبوسAnthropos ، ومعناه " الإنسان " و لوجوس Locos، ومعناه " علم ". وبذلك يصبح معنى
الأنثروبولوجيا من حيث اللفظ " علم
الإنسان " أي العلم الذي يدرس الإنسان .
(Nicholson, 1968, P.1)
(Nicholson, 1968, P.1)
ولذلك، تعرّف الأنثروبولوجيا، بأنّها العلم الذي يدرس الإنسان
من حيث هو كائن عضوي حي، يعيش في مجتمع تسوده نظم وأنساق اجتماعية في ظلّ ثقافة
معيّنة .. ويقوم بأعمال متعدّدة، ويسلك سلوكاً محدّداً؛ وهو أيضاً العلم الذي يدرس
الحياة البدائية، والحياة الحديثة المعاصرة، ويحاول التنبّؤ بمستقبل الإنسان
معتمداً على تطوّره عبر التاريخ الإنساني الطويل. . ولذا يعتبر علم دراسة الإنسان
(الأنثروبولوجيا) علماً متطوّراً، يدرس الإنسان وسلوكه وأعماله (أبو هلال، 1974، ص
9)
وتعرف الأنثروبولوجيا أيضاً، بأنّها علم (الأناسة) العلم الذي
يدرس الإنسان كمخلوق، ينتمي إلى العالم الحيواني من جهة، ومن جهة أخرى أنّه الوحيد
من الأنواع الحيوانية كلّها، الذي يصنع الثقافة ويبدعها، والمخلوق الذي يتميّز
عنها جميعاً .( الجباوي، 1997، ص 9)
كما تعرّف الأنثروبولوجيا بصورة مختصرة وشاملة بأنّها "
علم دراسة الإنسان طبيعياً واجتماعياً وحضارياً " (سليم، 1981، ص 56) أي أنّ
الأنثروبولوجيا لا تدرس الإنسان ككائن وحيد بذاته، أو منعزل عن أبناء جنسه، إنّما
تدرسه بوصفه كائناً اجتماعياً بطبعه، يحيا
في مجتمع معيّن لـه ميزاته الخاصة في مكان وزمان معينين .
فالأنثروبولوجيا بوصفها دراسة للإنسان في أبعاده المختلفة،
البيوفيزيائية والاجتماعية والثقافية، فهي علم شامل يجمع بين ميادين ومجالات
متباينة ومختلفة بعضها عن بعض، اختلاف علم التشريح عن تاريخ تطوّر الجنس البشري
والجماعات العرقية، وعن دراسة النظم الاجتماعية من سياسيّة واقتصادية وقرابية
ودينية وقانونية، وما إليها .. وكذلك عن الإبداع الإنساني في مجالات الثقافة المتنّوعة
التي تشمل : التراث الفكري وأنماط القيم وأنساق الفكر والإبداع الأدبي والفني، بل
والعادات والتقاليد ومظاهر السلوك في المجتمعات الإنسانية المختلفة، وإن كانت لا
تزال تعطي عناية خاصة للمجتمعات التقليدية. (أبو زيد، 2001، ص 7)
وهذا يتوافق مع تعريف / تايلور/ الذي يرى أنّ الأنثروبولوجيا
: "هي الدراسة البيوثقافية المقارنة
للإنسان " إذ تحاول الكشف عن العلاقة بين المظاهر البيولوجية الموروثة
للإنسان، وما يتلقاه من تعليم وتنشئة اجتماعية. وبهذا المعنى، تتناول الأنثروبولوجيا
موضوعات مختلفة من العلوم والتخصّصات التي تتعلّق بالإنسان .
ثانياً-طبيعة
الأنثروبولوجيا
إنّ الشعوب الناطقة باللغة الإنكليزية جميعها، تطلق على علم
الأنثروبولوجيا : " علم الإنسان وأعماله " بينما يطلق المصطلح ذاته في
البلدان الأوروبية غير الناطقة بالإنكليزية، على " دراسة الخصائص الجسمية
للإنسان". ويصل هذا الاختلاف إلى طبيعة علم الأنثروبولوجيا .. فبينما يعني في
أوروبا، الأنثروبولوجيا الفيزيقية، وينظر إلى علمي الآثار واللغويات كفرعين
منفصلين، فإنّ الأمريكيين يستخدمون مصطلح (الإثنولوجيا أو الإثنوغرافيا) لوصف
(الإثنوجرافيا الثقافية) والتي يطلق عليها البريطانيون (الأنثروبولوجيا
الاجتماعية) .
ففي إنكلترا مثلاً، يطلق مصطلح الأنثروبولوجيا، على دراسة
الشعوب وكياناتها الاجتماعية، مع ميل خاص للتأكيد على دراسة الشعوب البدائية. أمّا
في أمريكا، فيرى العلماء أنّ الأنثروبولوجيا، هي علم دراسة الثقافات البشرية البدائية
والمعاصرة، في حين أنّ علماء فرنسا يعنون بهذا المصطلح، دراسة الإنسان من الناحية
الطبيعية، أي " العضوية " .( كلوكهون، 1964، 209 )
فعلم الأنثروبولوجيا يركّز اهتمامه على كائن واحد، هو
الإنسان، ويحاول فهم أنواع الظاهرات المختلفة التي تؤثّر فيه .. في حين تركّز
العلوم الأخرى اهتمامها على أنواع محدّدة من الظاهرات أنّى وجدت في الطبيعة .وكان
علم الأنثروبولوجيا، وما زال، يحاول فهم كلّ ما يمكن فهمه أو معرفته عن طبيعة هذا
المخلوق الغريب الذي يسير على قدمين، وكذلك فهم سلوكه الذي يفوق طبيعته الجسمية
غرابة .
ومع أنّ علماء الأنثروبولوجيا، استطاعوا استخدام بعض الأساليب
التي طوّرتها العلوم الاجتماعية، فإنّهم قلّما اضطروا إلى انتظار تطوّر مثل هذه
الأساليب .. والواقع أنّ إسهامهم في تطوّر العلوم الاجتماعية، لا يقلّ شأناً عن
إسهام هذه العلوم في تطوّر الأنثروبولوجيا. ولذلك، ينقسم علم الأنثروبولوجيا إلى
قسمين أساسيين كبيرين : يبحث الأول في الإنسان، ويعرف بالأنثروبولوجيا الطبيعية،
في حين يبحث الثاني في أعمال الإنسان، ويعرف بالأنثروبولوجيا الثقافية / الحضارية
.( لينتون، 1967، ص 15-16)
واستناداً إلى هذه المنطلقات، فقد حدّدت الباحثة الأمريكية /
مارغريت ميد/ طبيعة علم الأنثروبولوجيا وأبعاده، بقولها : " إنّنا نصنّف
الخصائص الإنسانية للجنس البشري (البيولوجية والثقافية) كأنساق مترابطة ومتغيّرة،
وذلك عن طريق نماذج ومقاييس ومناهج متطوّرة. كما نهتمّ أيضاً بوصف النظم
الاجتماعية والتكنولوجية وتحليلها، إضافة إلى البحث في الإدراك العقلي للإنسان
وابتكاراته ومعتقداته ووسائل اتصالاته. وبصفة عامة، نسعى – نحن الأنثروبولوجيين –لتفسير
نتائج دراساتنا والربط فيما بينها في إطار نظريات التطوّر، أو ضمن مفهوم الوحدة
النفسيّة المشتركة بين البشر .."( Mead, 1973, p.280)
وتأسيساً على ما تقدّم، فإنّ الأنثروبولوجيا هي العلم الذي يدرس الإنسان، ويدرس أوجه الشبه
وأوجه الاختلاف بينه وبين الكائنات الحيّة الأخرى من جهة، وأوجه الشبه والاختلاف
بين الإنسان وأخيه الإنسان من جهة أخرى.
وفي الوقت ذاته، يدرس السلوك الإنساني ضمن الإطار الثقافي
والاجتماعي بوجه عام. فلا تهتمّ الأنثروبولوجيا بالإنسان الفرد، كما تفعل
الفيزيولوجيا أو علم النفس، وإنّما تهتمّ بالإنسان الذي يعيش في جماعات وأجناس،
وتدرس الناس في أحداثهم وأفعالهم الحياتية .
ثالثاً-
أهداف دراسة الأنثروبولوجيا
استناداً إلى مفهوم الانثروبولوجيا وطبيعتها، فإنّ دراستها
تحقّق مجموعة من الأهداف، يمكن حصرها في الأمور التالية :
3/1- وصف مظاهر الحياة البشرية والحضارية وصفاً دقيقاً، وذلك
عن طريق معايشة الباحث المجموعة أو الجماعة المدروسة، وتسجيل كلّ ما يقوم به
أفرادها من سلوكات في تعاملهم، في الحياة اليوميّة .
3/2- تصنيف مظاهر الحياة البشرية والحضارية بعد دراستها دراسة
واقعية، وذلك للوصول إلى أنماط إنسانية عامة، في سياق الترتيب التطوّري الحضاري
العام للإنسان : (بدائي- زراعي- صناعي – معرفي – تكنولوجي)
3/3- تحديد أصول التغيّر الذي يحدث للإنسان، وأسباب هذا
التغيّر وعملياته بدقّة علمية .. وذلك بالرجوع إلى التراث الإنساني وربطه بالحاضر
من خلال المقارنة، وإيجاد عناصر التغيير المختلفة .
4/3- استنتاج المؤشّرات
والتوقعّات لاتّجاه التغيير المحتمل، في الظواهر الإنسانية / الحضارية التي
تتمّم دراستها، وبالتصوّر بالتالي لإمكانية التنبؤ بمستقبل الجماعة البشرية
التي أجريت عليها الدراسة. (لينتون، 1964،
ص15)
ويبدو أنّ التباين العرقي بين بني البشر، هو الخاصة
البيولوجية التي تستأثر باهتمام العالِم الحديث، أكثر من سائر الخواص البيولوجية
الأخرى عند الإنسان. ويبذل المصنّفون العرقيون محاولات دائبة للتوصّل إلى تصنيف
عرقي مثالي. فكان من نتائج انشغال علماء الأنثروبولوجيا الجسمية بمشكلة العرق، أن
اكتسب مفهوم النوع (العرق) رسوخاً أعاق التفكير بالكائن البشري ذاته. فالأصناف
العرقية البشرية ظلّت، وإلى عهد قريب، تعتبر كيانات ثابتة نسبياً، وقادرة على
الصمود أمام تأثيرات البيئة أو قوى التغيّر الفطرية.
ويلاحظ أنّ التطرّف في تمجيد فكرة العرق، أدّى إلى فرض عدد
محدود من التصنيفات الصارمة على بني البشر الذين يمتازون بتنوّع لا حدّ له، وأدّى
بالتالي إلى زج الأفراد في هذه التصنيفات، بصورة تطمس صفاتهم الأصلية الخاصة.
(لينتون، 1967، ص 46)
إنّ اهتمام الأنثروبولوجيا بدراسة المجتمعات الإنسانية كلّها،
وعلى المستويات الحضارية كافة، يعتبر منطلقاً
أساسياً في فلسفة علم الأنثروبولوجيا وأهدافها. ولكن على الرغم من التوسّع
في مجال الدراسات الأنثروبولوجية، فما زالت الاهتمامات التقليدية للأنثروبولوجيا،
ولا سيّما وصف الثقافات وأسلوب حياة المجتمعات، ودراسة اللغات واللهجات المحلية
وآثار ما قبل التاريخ، تؤّكد ولا شك، تفرّد مجال الأنثروبولوجيا عمّا عداها من
العلوم الأخرى، ولا سيّما علم الاجتماع. (فهيم، 1986، ص 35 )
ومن هنا كانت أهميّة الدراسات الأنثروبولوجية في تحديد صفات
الكائنات البشرية، وإيجاد القواسم المشتركة فيما بينها، بعيداً عن التعصّب
والأحكام المسبقة التي لا تستند إلى أية أصول
علمية.
وإذا كان علم الأنثروبولوجيا، بدراساته المختلفة، قد استطاع
أن ينجح في إثبات الكثير من الظواهر الخاصة بنشأة الإنسان وطبيعته، ومراحل تطوّره
الثقافي / الحضاري، فإنّ أهمّ ما أثبته هو، أنّ الشعوب البشرية بأجناسها
المتعدّدة، تتشابه إلى حدّ التطابق في طبيعتها الأساسية، ولا سيّما في النواحي
العضوية والحيوية .
***
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق