الخميس، 8 يناير 2015

الصراع الثقافى وتاثيرة على اللغات المحلية فى أفريقيا

الحمد لله الذي رفع بالعلم درجات أهله، وأعطى كلاًّ من السمات ما بها يتميز عمن سواه،
فأكرم بني آدم بالعقل والنطق، وجعلهم مختلفي الألسن والألوان،
﴿ ومن آياته خلق السّماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إنّ في ذلك لآياتٍ لّلعالمين﴾، (سورة الروم، آية: 22)،
ثم أرجع معيار الأفضلية بعد ذلك، إلى تقواه عز وجل: ﴿ يآ أيّها النّاس إنّا خلقناكم مّن ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم إنّ الله عليمٌ خبيرٌ﴾ (الحجرات آية :13 ) .
       لقد عرفت الشعوب على مدى التاريخ،  أنواعاً من التواصل والتلاقح فيما بينها، وصنوفاً من الاحتكاك الظرفي أحيانا والمستمر أحيانا أخرى. وتنوعت الغايات من ذلك، فهي تارة ناتجة عن هيمنة واستعمار، وتارة عن تجارة وتعامل إرادي؛ ولكن هذا الاتصال كان يؤدي في كل الأحوال، إلى التأثر والاستفادة، فيمس التغير والتحول الطرفين معا. ونتج جراء ذلك، بروز الأوضاع الثقافية واللغوية التي نشهدها الآن في كل مناطق العالم، فليس هناك عرق يمكنه أن يدعي الصفاء الكلي، وليست هناك لغة لا نجد فيها آثارا للغات أخرى بائدة أو معاصرة. إن كثيرا من الظواهر الشاذة والمستعصية في الألسنة يمكنها أن ترجع إما جزئيا أو كليا، إلى عمليات التلاقح هذه.
    إن احتكاك الشعوب المفضي إلى تأثير اللغات بعضها في بعض، يرجع إلى أسباب عدة،  ويحدث بطرق كثيرة، ويرد في مظاهر متنوعة، بعضها ظاهر للعيان وبعضها الآخر خفي يجب أن يُجَليه الباحث.
ولقد حظيت العناية بالمقارنة بين الألسنة بعناية كبيرة في القرن التاسع عشر؛ لكن، سرعان ما استبعدت كل الأبعاد التاريخية في الدرس اللساني لصالح دراسة سانكرونية تستهدف دراسة اللسان في ذاته.
لكن تطور الدراسات اللغوية في النصف الثاني من القرن العشرين جعل من كل اشتغال لساني عملا مقارنا بين الألسنة، وأصبح البحث عن الكونيات اللسانية هدف كل باحث جاد.
وقد تطور من جديد، في العقود الأخيرة من القرن الماضي علم مستقل يعنى بالمقابلة بين الألسنة ويقارن بين ظواهرها، وهو اللسانيات التقابلية أو المقارنة La linguistique contrastive.


اللغة هى اداة إجتماعية تنمو و تتطور بقوانيها الخاصة بحيث تعكس محتوى الفكر الذى تحمله و تعبر عنه. ولا يمكن للغة ان تنمو وتتطور بمعزل عن حركة المجتمع وفكره . و الصحيح هو ان اللغة تنمو وتتطور مع تتطور ونمو الوعى الأجتماعى المحدد. فبقدر ما كان الوعى الأجتماعى لدى المستخدم لهذه اللغة يستوعب التحولات الأجتماعية و الديموغرافية كانت اللغة محكومة بالضرورة ان تستوعب فى قاموسها تلك التحولات بطريقتها الداخلية التى هى ايضا لها تاريخها.
فإن اللغة أحد مقومات الثقافة الإنسانية، وهي مرتبطة بالفكر ومعبرة عنه ، ولم يتميز الإنسان عن سائر المخلوقات إلا بالكلام الذي يدل على العقل والإدراك.واللغة فوق ذلك كلّه هي التاريخ ، فباللغة نتحدث عن الأشياء ، وبها نتحدث عن اللغة نفسها ، وإذ نتحدث ننهي تاريخا ونبدأ تاريخا آخر، الأول يستمر صورا وأفكارا فهو رصيد تراثنا وتاريخنا وهويتنا.والثاني يعبر عن مخزوننا العقلي فنعيش خلاله مستقبلنا، ونعبر بها عن ثقافتنا الإجتماعية والسياسية وغيرها.
واللغة تخضع لما تخضع له الظواهر الاجتماعية من سنة التطور أو التغير أو الفناء، فهي حية بحياة المجتمع المتكلم بها, وتموت بموته حقيقة أو حكما.وقد حدث التدافع الثقافي، أو الصراع الثقافي بين اللغة العربية واللغات المجاورة للمحيط العربي منذ فجر الإسلام إلى تاريخنا المعاصر، وقد صاحبت اللغة العربية رسالة الإسلام بفكرها وحضارتها، ونقلت الأمم والشعوب التي اعتنقت الإسلام إلى حال يصلح حياتها ويطور علمها وفكرها، فأصبحت العربية زيادة إلى كونها لغة القرآن الكريم لغة علم ومعرفة وثقافة مستقلة لها مضامينها ومصطلحاتها الخاصة في إفريقيا وغيرها من الدول التي دخلها الإسلام.
وإرتباط اللغة العربية بالقرآن الكريم وثقافته واجهت ولا تزال تواجه العديد من الصراعات والتحديات من قبل الاستشراق ومؤسساته التابعة، والتغريب والغزو الثقافي . وقد وضعت المؤسسات الغربية المعادية للثقافة العربية العديد من الخطط لعزل اللغة العربية عن محيطها الثقافي في إفريقيا، ومحاولة العمل على قطعها وعزل القرآن عن اللغة العربية الفصحى ليصبح مصيرها مثل اللغات المنقرضة ، أو على الأقل تحويلها إلى مجموعة مشتتة من اللهجات تفقد ارتباطها مستواها المرتبط بالقرآن الكريم وبيانه.
وتعتبر اللغة العربية بتراثها الأدبي إحدى اللغات العظيمة في العالم وقد احتلت مكانة كبيرة في التاريخ إلي جانب الدور العظيم الذي لعبته ولا تزال تلعبه في تنمية المجتمعات العربية والإسلامية.
وقد ذكر العالم اللغوي فيرجسون(
Ferguson)أن اللغة العربية بالنسبة إلى عدد المتكلمين بها وبالنسبة لمدى تأثيرها تعتبر أعظم اللغات السامية وواحدة من اللغات المهمة في العالم ويتكلم بها أكثر من 100 مليون نسمة تمتد أراضيهم ما بين آسيا وشمال أفريقيا ومن الخليج العربي إلى المحيط الأطلنطي بالإضافة إلى بعض الجيوب المنعزلة التي يتحدث أهلها العربية مثل جيبوتي وزنجبار وفي أوروبا ـ نجد مالطا وصقلية حتى القرن الثامن عشر وفي إسبانيا حتى القرن الخامس عشر ولأن العربية لغة القرآن الكريم فإنها ارتبطت بالإسلام ارتباطاً كبيراً وتعتبر اللغة العربية واحدة من اللغات التي تكتب بها وثائق الأمم المتحدة ويتم تعلم العربية في أماكن كثيرة بخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية.

ولذلك حيكت ضدّ اللغة العربية مؤامرات يمكن الجزم بأنها لو كانت موجهة إلى غيرها من اللغات لاندثرت. وفي الآونة الأخيرة استقرت في عقول بعض الناس ثقافة انهزامية تُري الإنسان نفسه من خلال الآخر ، ثقافة مزعومة تنمي شخصية سرابية ، فأصبحت العربية من جرائها عرضة للاستهانة والضياع ، فقد انتشرت العاميات واستفحل أمر استخدام اللغات الأجنبية، وليست المشكلة في استخدامها؛ بل لكون المتعلمين يستخدمونها في نواديهم ومحافلهم إظهارا للوجاهة تاركين اللغة العربية لغتهم الأم ، وهذا سبب أزمة نفسية عند عامة الناس فتراخت الهمم تجاهها، وانعدم الاهتمام بدراستها، وتعمقت دعوى عجزها في مواكبة المعرفة العلمية.
وهذه الورقة التي أحاول أن أشير فيها إلى صراع الثقافات في إفريقيا أخترت لها اللغة العربية دون غيرها من اللغات الإفريقية؛ لأنها هي التي تواجه الصراع الثقافي الحقيقي في القارة الإفريقية، مع وجود طمس هويات المجتمعات الإفريقية من قبل المؤسسات الغربية التي تحاول جاهدة محاربة اللغة العربية بكلّ ما تملك من وسائل.
واللغة العربية في إفريقيا احتكت بلغات كثيرة بفضل الإسلام ، فأثرت في لغات كثيرة وتأثرت بها في جوانب، غير أن ذلك لم يخل ببيانها ولا بجمالها وإنما طور الدخيلة لاستيعاب الحضارة المتجددة .
ماسبق يمكن القول: بأن اللغة تمثل الهوية الثقافية للمجتمع المتكلم بها أي كان سواء أكانت لغته أم أكتسبا نتيجة الصراع الثقافي بين اللغات كما حدث في كثير من الدول الإفريقية التي فقدت هويتها الثقافية، وسيطر عليها المكون الثقافي الغربي كما يقول الدكتور عمر أحمد سعيد:" تدخل في المكون الغربي عناصره التي سعى المستعمر الغربي إلى غرسها مثل العقيدة النصرانية واللغة الأوربية والعادات والتقاليد...هذه هي مكونات الثقافة الإفريقية الموجودة اليوم في أنحاء إفريقياالمختلفة."
ولربما هذه الورقة لاتكون شاملة لصراع الثقافات في إفريقيا، وحتى الصراع الثقافي بين العربية وغيرها؛ لأنّ حجم الصراع كبير في الساحة الإفريقية والمؤسسات الثقافية العاملة في هذا الحقل ليست بقليلة مع وجود إمكاناتها المادية ووسائلها المختلفة في كل الأقطار الإفريقية .
ومن هنا أريد حصر الموضوع في النقاط التالية:
العلاقة بين اللغة والهوية الثقافية
تأثير اللغة العربية على اللغات العالمية , والصراع الاستعماري الثقافي على اللغات الإفريقية .




العلاقة بين اللغة والهوية الثقافية:
استعمل العرب مصطلح الهوية قديما منسوبا إلى "هو" ، جاء في الكليات، لأبي البقاء الكفوي 1094هـ) إن الهوية هي" ما به الشيء هو باعتبار تحققه يسمى حقيقة وذاتا، وباعتبار تشخصه يسمى هوية ، وإذا أخذ أعم من هذا الاعتبار يسمى "ماهية" …والأمر المتعقل من حيث إنه مقول في جواب يسمى "ماهية"، ومن حيث ثبوته في الخارج يسمى حقيقة ، ومن حيث امتيازه عن الأغيار يسمى هوية " .
وفي التعريفات :" الهوية هي الحقيقة المشتملة على الحقائق اشتمال النواة على الشجرة في الغيب المطلق" . ولم تخرج الكلمة حديثا عن معناها القديم ،" فهي حقيقة الشي أو الشخص المطلق المشتملة على صفاته الجوهرية التي تميّزه عن غيره، وتسمى أيضا وحدة الذات" ، والهوية في معناها العام تشمل الامتياز عن الغير والمطابقة للنفس ما يتميّز به الفرد أو المجتمع عن الأغيار من خصائص ثقافية انتمائية وقيم ومقومات، وهي النواة الحيّة للشّخصية الفردية والجماعية والعامل الذي يحدد السلوك، ونوع القرارات والأفعال الأصيلة للفرد والجماعة، والعنصر المحرك الذي يسمح للأمة بمتابعة التطور والإبداع مع الاحتفاظ بالمكونات الثقافية الخاصة وميزاتها الجماعية التي تحدد بفعل التاريخ الطويل.. ، فالهوية القومية : هي واقعة تاريخية زمنية ملموسة تصاغ باستمرار، ولا يمكن للهوية أن تكتسب حيويتها إلا بمقدرتها على التطور والتفاعل مع المعطيات التاريخية :الاجتماعية ، والسياسية ، والثقافية ، وعلى وعي أصحابها بما فيه من انفتاح ومرونة واستجابة نقدية وهذا ما يحفظ الأمم من الانسلاخ عن هوياتهم الثقافية.
أما الثقافة فتعني"البيئة التي صنعها الإنسان لنفسه فهي كل يتضمن بصفة خاصة اللغة والعادات والتقاليد والنظم الاجتماعية ، وهي موجودة في كل المجتمعات البشرية، وتتسع لكل ما أبدعته عبقرية أبنائه عبر العصور المتعاقبة في تاريخ حضارته" . وجاء في إعلان مؤتمر" اليونسكو " للثقافة في" المكسيك" تحديد للثقافة روعي فيه المفاهيم المتباينة وهو أن " الثقافة بمعناها الواسع يمكن أن ينظر إليها اليوم على أنها جميع السمات الروحية والمادية والفكرية والعاطفية التي تميِّز مجتمعا بعينه أو فئة بعينها، وهي تشمل الفنون والآداب وطريق الحياة كما تشمل الحقوق الأساسية للإنسان ونظم القيم والتقاليد والعادات .
وهي التي تمنح الإنسان قدرته على التفكير في ذاته... وهي وسيلة الإنسان للتعبير عن نفسه وإلى إعادة النظر في إنجازاته ...والبحث عن مدلولات جديدة..." ومن هذه التعريفات نستنتج أن الهوية الثقافية جزء عضوي من فكرة الثقافة ، فالثقافة هي التي تحدد الهوية، والهوية هي التي تعبر عن الخصائص التاريخية واللغوية والنفسية التي تؤدي إلى التمايز بين مجتمع وآخر، لتشكل بذلك خلفية لأمة ما في محيط انتمائي واحد .
ويلاحظ من خلال التعريفات السابقة أنها لا تخلو من إشارة إلى دور اللغة في تشكيل الهوية الثقافية، فاللغة القومية ليست مجرد وسيلة تعبير وتفاهم بين إنسان وآخر، إنها بحكم منطقها وتاريخيتها وبناها وتراكيبها رابطة اجتماعية وأداة للتواصل بين الماضي والحاضر، وتمثل الذاكرة الحضارية ، وقوام الشخصية ومناط الأصالة، فهي المحيلة على الأصل لأنها أساس الهوية .
ولذلك نجد أن المجتمعات التي تشعر بهويّة واحدة تقوم بصياغة لغة خاصة بها، تحقق من خلالها تواصلها وتمكِّنها من التعبير عن ذاتها وتميز بين هويتها وهوية الشعوب الأخرى وطبيعة التواصل هذه هي التي تحدد هويتها .
وإذاكان الأمر كذلك فإن ثقافة أي أمة محدودة بلغتها قدر حدودها في الإطار الجغرافي، فلا عجب أن تتباهى كل أمة بلغتها مباهاتها بترابها؛ لأنها الوجه الممثل للهوية والعامل الجوهري في وجودها القومي."
ومفهوم الثقافة يتسع لمعان كثيرة كما يقول الكتور مهدي ساتي:"نعني بالثقافة - culture –مجموع المعارف الإنسانية والعلوم والعادات المكتسبة من لغة، وفن ودين،تتمثلها مجموعة من البشر فتؤثر في سلوكها، ووجدانها، وطرائق فهمها للأشياء بدرجات متفاتة، فتولد نمطا خاصا من التفكير والتعبير عن الذات، فيما يتعلق بتفسيرها لقضايا الوجودوالعدم." ولعلّ أوضح مثال على ذلك واقع العربية في القديم وفي العصر الحاضر؛فقد جمعت العرب تحت لوائها في كل العصور بقوة الثقافة الإسلامية غير العرب في نسيج هويتها بفعل الإسلام،وعلى هذا الأساس رأى الشافعي(150 –204هـ) أن اللغة العربية جزء أساس،أو محدد في الهوية العربية والإسلامية،وذلك حين رأى أن بارتباط القرآن باللسان العربي صار هناك ارتباط بين الإسلام والعرب"وإنما صار غيرهم من غير أهله بتركه، فإذا صار إليه صار من أهله" ، فتكون اللغة بهذه النظرة محددة للهوية بغـضّ النظر عن الجـذور والانتـمـاءات الإثنية ، ولعل كلامه يعبّر عن رد لما كان يواجه الأمة من موجات شعوبية ، ومن هنا غض النظر عن الجدال في الأصل والنسب ليركز على آفاق الهوية الحضارية التي منها تتحدد المسائل، فكانت اللغة من و جهة ارتباطها بالإسلام موقع نظر لتأتي استنتاجاته المتشددة على العروبة لغة وثقافة ورابطة.
وعلى رأي الشافعي سار ابن تيمية 661- 728هـ) بعدما استوعب أبعاد القضية فرأى أنه مع تطور المقاييس صارت العربية عربية اللسان وعربية الأخلاق وتثبت لمن كان كذلك وإن كان أصله فارسيا . وتنتفي عمن لم يكن كذلك وإن كان أصله هاشميا" ، ذلك أن " اللسان العربي شعار الإسلام وأهله ، واللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يتميزون" مقتديا في رأيه هذا بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم « إن العربية ليست لأحدكم بأب ولا أم فإنما هي لسان فمن تكلم العربية فهو عربي» وهذا ما يجب أن يكون عليه حالنا معها لتتكاتف الجهود في رفعها إلى مرتبتها المناسبة لمقامها الحضاري في القارة الإفريقية التي تواجه غزوا ثقافيا وحضاريا كبيرا من قبل الغرب الإستعماري.
وإذا كانت اللغة هي الصورة الكاملة والوجه الممثل للهوية والثقافة فهي إذاً تاريخ الأمة والمحرك لها لضمان استمرارها ، وهذا يعني أنّ الكلمة شاهدة، وتمثال على حقائق الشّعوب، فدراستها تساعد على تحديد تاريخ الشّعوب، فإذا نظرنا إلى العربية وما فيها من تأثير على لغات الشّعوب ندرك أنّ حامليها مروا بحقبة تاريخية معينة كانوا سادة في هذا العالم.
واللغة العربية في إفريقيا عموما ثقافتنا وقدرنا شئنا أم أبينا ولا انفكاك لنا منها إلا بانفكاكنا من أنفسنا وتحولنا إلى كائنات لا تبدع إلا في لغة مستعمرها. وإن اللغة وطن الأمة الروحي، وخزانة تراثها الفكري، ووعاء ثقافتها وآدابها وعلومها، وحاملة هويتها وشعائرها في الماضي والحاضر والمستقبل، ولهذا تحرص الأمة على سلامة لغتها حرصها على ذاتها، وتتمسك بها تمسكها بحقيقتها، وتدافع عنها دفاعها عن حماها". وهذه ليست عبارات رومانسية أو حماسية، هذه حقائق واقعية توليها كل الأمم العناية الفائقة لأهميتها في استمرار حضارتها وتنامي هويتها . مما سبق يتضح مدى أهمية اللغة في الحياة البشرية ودورها في تحديد الهويات، وما اختلاف اللغات إلا تحقيق لهذه الهويّات، وهو المدعاة للتنافس الثقافي الخير، فلا عجب أن يكون هذا  وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ]الاختلاف آية من آيات الله، كما قال تعالى: السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ [إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ
. ولما كانت العربية هي أجلى هوية عربية وإسلامية كما سبق آنفا فإنها الدالة على فكرنا وحافظة تراثنا في إفريقا وإن تعددت لغاتها فالعربية أحدى المكونات الثقافية الكبرى التي لا يمكن أن تنفك عنها الشعوب الإفريقية نتيجة الصراع الغربي الذي يروج لثقافته وفكره ويحاول صد اللغة العربية وعزلها عن محيطها ووطنها الإفريقي.













تأثير اللغة العربية على اللغات العالمية وعلى اللغات الأفريقية خاصة :
كانت اللغة العربية بعيدة الأثر في اللغات المعاصرة لظهور الإسلام فظهر أثرها في لغات آسيا ولغات أفريقيا، ولم تبق الفارسية في إيران والبربرية في المغرب العربي والرومانية في أسبانيا إلا عند نفر يسير من علماء هذه اللغات، للأثر الذي أحدثته فيها.
ويذهب الباحثون اعتمادا على الدراسات والتحقيقات التي قام بها العلماء أن نسبة الألفاظ العربية في اللغة التركية قديما وصلت إلى 63 . 30 % قبل أن يتآمروا عليها ، وفي الفارسية 60.60 % وفي الأفغانية %57 وفي الطاجكية 40 % وفي الأردية 42% وفي الإندونيسية 50 % .
أما في الغرب فيقدِّر الباحثون أن في اللغة الأسبانية 1500 كلمة من أصل عربي، وفي اللغة الإنجليزية 400 / 1000 كلمة، وفي الفرنسية 280 كلمة، وفي اللغة الألمانية 250، ويعدّ إدخال العرب الأرقام العربية إلى أوروبا مفخرة باقية مدى الدهر .
وأما في أفريقيا فقد أجمل" توماس أرنولد" وجه التأثير في لغات القارة بقوله إن العربية" أصبحت لغة التخاطب بين قبائل نصف القارة " وهذا القول مع صحته يجهل صاحبه أو يتجاهل أن معظم سكان إفريقيا شمالا وشرقا من أصول عربية وهم يمثلون نسبة كبيرة في إفريقيا.
وأما من ناحية استعمال الأمم للحرف العربي فتدل الإحصاءات على أن عدد اللغات التي تمت كتابتها بالحروف العربية في كل من أفريقيا وآسيا أكثر من ستين 60) ) لغة، من بينها حوالي ثلاثين(30) لغة في أفريقيا.
والحديث عن مظاهر عالمية اللغة العربية وحضورها في اللغات العالمية غاية صعب المنال، لأن ذلك هو الكلام عن كل دولة دخلها الإسلام بحضارته، وهذا يقتضي جهودا كبيرة من الباحثين لتحقيق ذلك .غير أن الاعتراف بهذا التأثير جزء من الحقيقة التاريخية التي لا مراء فيه، وأشير إلى هذه المسألة بشكل مقتضب في الآتي:
ففي آسيا : لم تلبث اللغة العربية بعد فتح العراق ومن ورائه بلاد فارس، وبعد فتح الشام ومصر، أن اكتسحت اللغات التي كانت سائدة في هذه المناطق وهي الآرامية والسريانية واليونانية واللاتينية والقبطية.وحلّ الخط العربي والأبجدية العربية محل خطوطها وأبجديتها" ، ثم توغلت العربية من طريق الفتوحات والتجارة إلى أقاصي آسيا .فأثرت في الفارسية في كثير من جوانبها وخاصة الفكر الإسلامي والشريعة الإسلامية ومجالات التنظيم السياسي والإداري ، يقول المستشرق " براون" :" هذه الفارسية الحديثة أثرت فيها العربية بعد الإسلام أيما تأثير. فقد ظل شعراء الفرس لا يقولون الشعر نحو قرنين إلا بالعربية، ثم رقت إلى أواخر القرن الرابع فأصبحت ثلث كلماتها عربي الأصل". وما زالت العربية لها حضورها في إيران في مجالات الدراسات الإسلامية ،وفي استعمال حرفها

وفي التركية : كانت العربية تؤلف الجزء الأكبر من أجزائها الثلاثة :الفارسية والتركية والعربية، كما أن قواعدها وصرفها مستمدة من العربية، وكانت لغة الثقافة والتأليف في تركيا . "وقد ظلت الأبجدية العربية هي السائدة حتى قامت ردة أتاتورك الذي فرض إلغاء الحروف العربية وفرض محلها الحروف اللاتينية في عام 1927م. ثم جرت تصفية التركية من المفردات العربية خلال عدد من المؤتمرات المحليّة التي خصصت لهذا الغرض، وتمّ إخراج ( 13650) كلمة عربية" . ومحاربة الثقافة العربية من قبل أتاتورك وجماعته بهذا الصنيع قطعوا صلة الأتراك بماضيهم المجيد، وأورثوا تصدعا في الحضارة الإسلامية، وتخلفا اجتماعيا يبعث على الأسى والأسف .
وكان للعربية أيضا أثرها في كل من الهندية والأردية، فحتى القرن التاسع الهجري عندما أغار البابور الملقب بظهير الدين على كابول وعلى الهند، كانت اللغة العربية هي لغة الأدب والفن، وتقوم الفارسية إلى جانبها، وكان انتشار العربية في الهند من طريقين : -
من ثنايا اللغة والآداب الفارسية .
- نمو اللغة في مجتمع المسلمين وانشغال الكثيرين بالكتابة بها، وبذلك تأثرت اللغات الهندية باللغة العربية أيما تأثير ، ويذهب بعض الدارسين إلى أن العربية تمثل 30% إلى 60% من لغات باكستان المحلية ومعظمها تكتب بالحروف العربية . أما أفغانستان فتمثل العربية فيها نسبة لا تقل عن 40% أو 60 % من اللغة الوطنية وتدرس في المدارس بوصفها أساسية .
أما في إفريقيا  :
فكما كان التدافع الثقافي بين العربية واللغات الأخرى في آسيا له تأثيره كان لإفريقيا من هذا التأثير النصيب الأوفر؛ فهناك أكثر من 600 لغة في القارة الإفريقية، فضلا عن آلاف اللهجات التي لا يتكلم بها أحيانا إلا مجموعات صغيرة .
وقلّه من يبن تلك اللغات ما لم تستفد من الحضارة الإسلامية، فقد تحولت هذه الشعوب إلى شعوب مستعربة، وخاصة في شمال القارة حيث انصهرت في بؤرة العرب لتصبح عربية تمثل ثلاثة أرباع العرب تقريبا،أي ثلث القارة وفي جنوب القارة وشرقها وغربها صارت العربية لغة الشعوب الثانية، وصاروا يكتبون بالحرف العربي. فمن اللغات التي تأثرت باللغة العربية حسب ما يذكره الباحثون:
الهوسا والفلانية والماندنجو والولوف والسواحلية والصومالية،ومن اللغات التي كتبت بالحرف العربي
- لغة الهوسا في النيجر ونيجيريا وغانا : وبلاد أخرى في غرب القارة .
- لغة الفلاني : التي تمتد من السودان حتى السنغال ونامبيا وغينيا وفي غرب أفريقيا.
- لغة السواحلية في تنزانيا وكينيا وأوغندا ،والكونغو.
- لغة مانديكان في سيراليون وغانا وليبريا وغينيا .
- ولغة الولوف في السنغال ونامبيا. واللغة الصومالية،ولغات السودان، واللغة القبائلية في المغرب العربي.
- البمبرا في غرب القارة ولغة اليوربا.
- لغة سوننكي في مالي والسنغال ومورتانيا ونامبيا ، وغيرها.
وكان العامل الرئيس في اهتمام الأفارقة باللغة العربية كونها لغة القرآن، . وكما كان من عوامل ذلك القرابة اللغوية، فاللغة العربية لغة عروبية في تقسيم العلماء للغات ، وفي القارة تتوزّع اللغات بين سامية وحامية ،ويذكر العلماء أن التأثير بين هاتين الأسرتين غير عسير لتشابهما.
ينضاف إلى هذا العامل عامل التفوق الحضاري ، وبفعل الغلبة الحضارية. إن الرحالة الأوروبيين تعجبوا من حضور اللغة العربية في أفريقيا، وسجلوا ملاحظات حول ذلك. وقد ذكر المستشرق " فرنسيس مور " هذه الظاهرة قائلا:" في كل دولة أو بلد على كل من جانبي النهر (نهر غامبيا ) توجد جماعة ذات بشرة سمراء تدعى "الفولز أو الفلاني" وهم يشبهون العرب ومعظمهم يتكلم العربية…" ويقول توماس أرنولد: " ..بلغت اللغة العربية حدا يفوق كل وصف من الغنى والجمال [بل إنها] أصبحت لغة التخاطب بين قبائل نصف القارة ." ويقول أول حاكم فرنسي لقلعة فورت دو فين بالجنوب الملغاشي حين أدهشه ما رأى من حضور العربية في الأوساط الشعبية " إن الملغاشية ترتبط كثيرا بالعربية" وذكر آخر معاصر له قائلا" إن الملغاشيين يتكلمون العربية" . لقد اضطر الاستعمار عند دخوله القارة أن يتخذ العربية لغة سياسية بينه وبين الأمراء لتمكّنها بين سكان البلاد فكان التفاهم والرسائل المتبادلة باللغة العربية وهذا يدل على أنها كانت لغة رسمية لمعظم البلاد الأفريقية . وعلى الرّغم من هذا كله، فإن هذه اللغة أظهرت أعجوبتها بأن ظلت لغة عالمية لارتباطها بالقرآن، فانبثق في مطلع القرن التاسع عشر نشاط في الأمة، ودخلت في مرحلة جديدة من اليقظة،وعم الشعور بالانتماء وتجاوز هذا الشعور إلى حلقات وجمعيات وجماعات هدفها الأول إحياء اللغة العربية، وانتشرت المدارس ورجعت العربية في استعادة موقعها المستحق ، واستطاعت أن تنهض نهضة كبرى لتشق طريقها إلى العالمية رغم المعوقات التي تعترضها.
وإذا لاحظنا تعداد المسلمين في العالم اليوم ، وتعدادهم في القرون الماضية نرى فرقا شاسعا بينهما إذ يصل تعدادهم اليوم إلى أكثر من " مليار وثلث المليار" وكلهم لهم صلة بالقرآن الكريم الذي ينطق بالعربية، وهذا يدلّ على أن العربيّة أكثر انتشارا من ذي قبل، وإنّ الّذي تحتاج إليه هو خطة محكمة لتتخذها الشّعوب الإسلامية لغات عمل بدل اللغات الأجنبية، وهناك في العالم الإسلامي نهضة لا يستهان بها، لكنّها تحتاج إلى موقف موحد تسمح للعربية أن تأخذ مكانتها المستحقة في العالم، ونعني " بمكانتها المستحقّة" أن تتبناها الشعوب التي تشعر بالانتماء إلى الثقافة الإسلامية لغة رسمية لبلادهم،فالمسلمون في إندونيسيا وباكستان وبنغلاديش وفي أفريقيا، يكنّون الحب، والولاء للعربيّة . ويلاحظ أنّ بعض البلدان التي تحرّرت من لغة الاستعمار في أفريقيا تبنّت اللّغة العربيّة لغة رسمية مثل " بلدان شمال أفريقيا موريتانيا والصومال وتشاد وأن سبعين بالمئة ممن ينتمون إلى الثقافة العربية بلغتها يعيشون في القارة الأفريقية ،وهذا ما يدلّ على أن أفريقيا إذا أرادت التّخلص من مشاكلها اللغويّة التعدديّة لابدّ لها من أن ترجع إلى جذورها المرتبطة بالعربية وتتخذها لغة في الحياة والكتابة .
وقد عمّ تدريسها اليوم في العالم الإسلامي وغير الإسلامي، وفرضت نفسها في السّنوات القليلة الماضيّة في البلدان الأوروبيّة والأمريكيّة والأفريقيّة، حيث أضحت ضرورة ملحّة لممثّلي التّجارة ، والصناعة الأوروبية في الأقطار العربية وخاصة النفطية .
وهذا ما لاحظه "تركي رابح"، من حيث انتشارها في الجامعات الأمريكيّة والأوروبيّة، وازدياد الإقبال عليها بين صفوف رجال المال والأعمال، وتخصيص الإذاعات حيزا لبرامجها، وكثرة الجرائد الصّادرة بها .
وبهذا يمكن القول إنّ اللغة العربيّة استعادت عالميّتها لتحقق بذلك قول أحد الباحثين الغربيين:"إن اللّغة العربيّة لتدين حتى يومنا هذا بمركزها العالمي لقد برهن جبروت التراث العربي الخالد على أنه أقوى من كل محاولة يقصد بها زحزحة العربية الفصحى عن مقامها المسيطر،وإذا صدقت البوادر ولم تخطئ الدلائل فستحتفظ العربية بهذا المقام العتيد من حيث هي لغة المدينة الإسلامية ".
وبالفعل استطاعت العربية في القرن العشرين حتى الآن، أن تدحض تلفيقات المغرضين، والمواجهات المعاصرة بأن دخلت في لغات العالم المعتبرة دوليا، وتآخت مع اللغات، وعانقت الحضارة، ورفدت الثقافات، وأصبحت على الصعيد الدولي والسياسي إحدى اللغات الكبرى مشهودا لها بالعمق الحضاري والبعد الإنساني ؛
ففي عام 1963 م، اتخذت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارا اعترفت فيه بالدور المهم الذي تضطلع به اللغة العربية في صون الحضارة والثقافة الإنسانية ونشرها، وفي عام 1974م، أصبحت اللغة العربية لغة رسمية ولغة عمل للجمعية العامة للأمم المتحدة إلى جانب اللغات الخمسة الكبرى المعتمدة في الهيئات الدولية _ الإنجليزية،والفرنسية ،والأسبانية ،والروسية ، والصينية _ ،
وفي عام 1975م ازداد عدد المؤتمرات التي تستخدم فيها العربية في هيأة الأمم المتحدة ومنظماتها ووكالاتها المتخصصة، مثل المنظمة العالمية للتربية والعلم والثقافة "اليونسكو" والمنظمة العالمية للأغذية والزراعة، ومنظمة الصحة العالمية ومنظمة العمل الدولية ومنظمة الطفولة .
وكما أن اللغة العربية لغة رسمية في الأمم المتحدة فهي كذلك لغة رسمية في منظمة الوحدة الأفريقية سابقا منذ عام 1973م، ولغة رسمية في الاتحاد الأفريقي جنبا إلى الفرنسية والإنجليزية.
وإن السّر في ذلك النجاح الباهر الذي حققته العربية عبر العصور إلى الآن هو كونها لغة الإسلام عقيدة وأحكاما وشعائر، وكونها لغة علم وعمل ولغة بيان مرنة تستوعب متطلبات العصور المختلفة،ولغة التجارة في القديم والعصر الحاضر . وتتطلب منا هذه العالمية اهتماما متواصلا لضمان استخدامها لغة رسمية في البلاد المختلفة على مستوى ما يتم للغتين الإنجليزية والفرنسية، ولا يكون لنا ذلك إلا بفرض الأمة اعتبارها العالمي باكتساب العلوم والتقانة وتوطينهما ثم إخراجهما بلغة عربية كما كان الِشأن في العصور الذهبية للحضارة الإسلامية .
والواقع أن التسابق العالمي أو الصراع إذا لاحظناه في جانبه الثقافي فإن الصراع اللغوي خصوصا في إفريقيا ربما سيدور بين ثلاث لغات رئيسة :
الإنجليزية والفرنسية والعربية ،فالتنميط الثقافي الذي ظهر الآن بفعل النظام العالمي الجديد يجعل هويات الشعوب هي المستهدفة في الدرجة الأولى ، فالنظام العالمي الجديد لا يحترم الخصوصيات كما كان شأن العربية، وهذا ما سيجعل العربية محتاجة إلى عناية أكثر بها سواء على الصعيد العربي أو الإسلامي.












1-      إبراهيم حسن حسن , انتشار الإسلام والعروبة فيما يلي الصحراء الكبرى , معهد الدراسات العربية , 1957م , القاهرة .
2-    شوقى عطا الله الجمل – عبد الله عبد الرزاق إبراهيم , تاريخ المسلمين فى أفريقيا ومشكلاتهم  , دار الثقافة للنشر والتوزيع , 1996م , القاهرة .
3-    حسن أحمد محمود , الإسلام والثقافة العربية في إفريقيا  , ج1، ط 2 ,1963م , القاهرة .
4-    حسن أحمد محمود , إنتشار الإسلام والثقافة العربية فى أفريقيا ج1, 1986 م , القاهرة .
5-    شوقى عبد القوى عثمان , التجارة بين مصر وأفريقيا فى عصر سلاطين المماليك , المجلس الأعلى للثقافة , 2000م , القاهرة .
6-     محمود فهمي حجازي , علم اللغة العربية  , مكتبة غريب , (بدون تاريخ) , القاهرة.
7-    فرحان السليم , اللغة العربية ومكانتها بين اللغات ,  2009م .
8-    أحمد نعمان , علاقة اللغة بالفكر والثقافة , مجلة رسالة الجهاد ع: 83 , 1989م .
 بسام بركة , التواصل والعلاقة بين العنف والهوية, مجلة الفكر العربي , ع: 96 ، 1999م .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق