أولاً
-علاقة الأنثروبولوجيا بعلم الأحياء
ثانياً-علاقة
الأنثروبولوجيا بعلم الاجتماع
ثالثاً-علاقة
الأنثروبولوجيا بعلم الفلسفة
رابعاً-
علاقة الأنثروبولوجيا بعلم النفس
خامساً_علاقة
الأنثروبولوجيا بعلم الجيولوجيا والجغرافيا
مقــدمّة
على الرغم من الاعتراف بالأنثروبولوجيا كعلم مستقلّ بذاته، يدرس الإنسان من حيث نشأته وتطوّره وثقافته، فما زال
العلماء، ولا سيّما علماء الإنسان يختلفون حول تصنيف هذا العلم بين العلوم
المختلفة .. فيرى بعضهم أنّه من العلوم
الاجتماعية، كعلم النفس والاجتماع والتاريخ والسياسة. ويرى بعضهم أيضاً أنّه من العلوم
التطبيقية، كالرياضيات والطب والفلك. بينما يرى بعضهم الآخر أنّه من العلوم
الإنسانية، كالفلسفة والفنون والديانات ..
لكن هذه العلوم كلّها
دخلت على مرّ التاريخ الثقافي لشعب ما، إلى جسد هذه الثقافة وأصبحت جزءاً منها ،
ومكوّناً من مكوّناتها، الأمر الذي أدى في النهاية إلى اختلاف الثقافات بين المجتمعات البشرية. ومن هنا كان علم
الأنثروبولوجيا، ذا صلة بكثير من العلوم أخرى.
فعلم الأنثروبولوجيا اضطرّ المرة تلو المرّة، إلى الانتظار
ريثما تنجح العلوم الطبيعية في استجلاء نقطة معيّنة عن طريق التجارب التي تجرى على
الحيوانات. وممّا لا شكّ فيه أنّ نتائج الأبحاث التي أجراها علماء الوراثة على
الجرذان وذباب الأشجار المثمرة، هي التي مهّدت الطريق لفهم قوانين الوراثة عند
الكائنات البشرية، ولجلاء المشكلات المختلفة المتّصلة بما يسمّى (العروق أو
الأجناس البشرية ). غير أنّنا من جهة أخرى، نستطيع القول : إنّ الحقائق التي
اكتشفتها العلوم الطبيعية، لا تساعد كثيراً في فهم طبيعة السلوك الإنساني، وذلك
لأنّ معظم الظاهرات السلوكية البشرية لا تجد ما يماثلها مماثلة وثيقة على الصعيد
الحيواني .
ويصدق هذا بوجه خاص على الظاهرات المتّصلة بالحياة الاجتماعية
المنظّمة. فمع أنّ علماء الأنثروبولوجيا استطاعوا استخدام بعض الأساليب التي
طوّرتها العلوم الاجتماعية، فإنّهم قلّما اضطرّوا إلى انتظار تطوّر مثل هذه
الأساليب. والواقع أنّ إسهامهم في تطوّر العلوم الاجتماعية، لا يقلّ شأناً عن
إسهام هذه العلوم في تطوّر الأنثروبولوجيا. (لينتون ،1967، ص 16)
وسنكتفي بتبيان صلة
الأنثروبولوجية بعلم الأحياء، وعلم الاجتماع وعلم الفلسفة، وعلم النفس، وعلم
الجيولوجيا والجغرافيا، ونترك صلتها بالعلوم الأخرى لأنّها سترد في الفصول
اللاحقة، من خلال عرض فروع الأنثروبولوجيا.
أولاً- علاقة الأنثروبولوجيا بعلم الأحياء / البيولوجيا Biology
يتناول علم الأحياء
دراسة الكائنات الحيّة من وحيد الخلية الأبسط تركيباً، وحتى كثير الخلايا والأكثر
تعقيداً .ولذلك يعرّف بأنّه : العلم الذي يدرس الإنسان كفرد قائم بذاته، من حيث
بنية أعضائه وتطوّرها .
ويرتبط علم الأحياء
بالعلوم الطبيعية، ولا سيّما علم وظائف الأعضاء والتشريح وحياة الكائن
الحي. وتدخل في ذلك، نظرية التطوّر التي
تقول بأن أجسام أجناس الكائنات الحيّة وأنواعها ووظائف أعضائها، تتغيّر
باستمرار ما دامت هذه الكائنات تتكاثر وتنتج أجيالاً جديدة ، قد تكون أرقى من
الأجيال السابقة، كما هي الحال عند الإنسان.
كما تستند هذه النظرية إلى أنّ الإنسان بدأ كائناً حيّاً
بخلية واحدة، تكاثرت في إطار بنيته
العامة، إلى أن انتهى إلى ما هو عليه الآن من التطوّر العقلي والنفسي والاجتماعي.
وهذا ما دلّت عليه بقايا عظام الكائنات الحيّة المكتشفة في الحفريات الأثرية .
فالأنثروبولوجيا، من الناحية النظرية، شديدة القرب من
البيولوجيا ؛ فكلاهما يدرس عملية إعادة إنتاج الحياة، وكلاهما مبنيّ على نموذج
نظري للتنوّع، وكلّ في تخصّصه.
لكنّ نتائج الحوار في الدراسة الميدانية، أدّت كما يقول /
كارلوس سافيدرا/ إلى أنّ المبادىء التي تأسّست عليها نظرية التطوّر تتبع من
الناحية المنطقية والمنهجيّة، توالياً أو نموذجاً، يسير من الثبات إلى التغيّر..
فبنو الإنسان من أصل واحد، سواء أكان التطوّر بالتعبير التطوّري أو بتركيب الحمض
النووي بالتعبير التزامني .. ولكن هناك أيضاً – في الوقت نفسه – تشوّهات وتغيّرات
مختلفة الأشكال، بنيوية وتركيبية بالمصطلح الأنثروبولوجي .
ويحظى تحليل التنوّع في العلمين، بدور حيوي : التنوّع الجيني
في علم (البيولوجيا) والتنوّع الاجتماعي في (الأنثروبولوجيا) , فالتنوّع أمر أساسي
لما تسمّيه البيولوجيا " الفاعلية البيولوجية " وهي القدرة على مواصلة
الحياة، وإخلاف الذرية. والأمر ذاته نجده في الأنثروبولوجيا فيما يطلق عليه :
إشباع الحاجات الأساسية.
يعدّ / دارون / رائد علم الأحياء، الذي استند فيه إلى
نظرية (النشوء والارتقاء ) في حياة
الإنسان، والتي قدّم لها تفسيراً
منهجياً معقولاً، يتلخّص في الأمور
التالية:
1-إنّ عمليات الحياة المتتابعة بمعطياتها وظروفها، تنتج
كائنات مختلفة عن أصولها .. أي أنّ أنواع هذه الكائنات لا تتكرّر هي ذاتها من خلال
التكاثر، بل تتنوّع في أشكالها ومظاهرها .
2- إنّ الخصائص التي تتمتّع بها بعض الكائنات الحيّة، تجعلها
أكثر قدرة على البقاء من بعضها الآخر، حيث تستطيع التلاؤم مع الظروف البيئيّة
الخاصة التي تحيط بها .
3-إنّ الكائنات الحيّة الجديدة، الأكثر قدرة ورقيّاً، تمتلك
عوامل التكاثر والاستمرار على قيد الحياة، لفترة أطول ممّا هي عند بعض الكائنات
الضعيفة الأخرى، التي تتعرّض للانقراض السريع .
4-إنّ بعض الخصائص البيولوجية( الصفات المهلكة) عند بعض أنواع
الكائنات الحيّة تؤدّي إلى موتها بصورة سريعة، وربّما مباشرة، إذا لم تكن هذه
الخصائص تؤهّلها للتكيّف مع الظروف البيئيّة. وهذا ما يؤثّر سلباً في نسل هذه
الكائنات من حيث البنية والمقاومة.
واستناداً إلى هذه المبادىء التي قدّمها دارون في أصل
الكائنات الحيّة وتطوّرها، وصولاً إلى وضع الإنسان الحالي، اكتشف العلماء قوانين
الوراثة وما يتبعها من الجينات (الخلايا) التي تحمل صفات الإنسان، وتنقلها من
الآباء إلى الأبناء، من خلال التلقيح والتكاثر. وهذا ما جعل علماء الأنثروبولوجيا
يعتقدون بأن الجنس البشري مرّ بمراحل تطوّرية عديدة ،حتى وصل إلى الإنسان (الحيوان
الناطق والعاقل ).
ومهما يكن الأمر، فإنّ النقاش ما زال مفتوحاً حول دور الأنثروبولوجيا في الدراسات الخاصة بتطوّر الإنسان هذا التطوّر
الذي يدخل في الإطار التاريخي، ولكن بطبيعة بيولوجية، لا بدّ من دراسة مبادئها
ومظاهر تغيّرها .
ثانياً-
علاقة الأنثروبولوجيا بعلم الاجتماع
يعدّ علم الاجتماع من أحدث العلوم الأساسية وأهم العلوم
الإنسانية. لذلك، يعرّف بأنّه : العلم الذي يدرس الحياة الاجتماعية بجميع مظاهرها،
ويتحرّى أسباب الحوادث الاجتماعية وقوانين تطوّرها. (الحصري، 1985، ص 8)
ويعرّف بصورة أوسع، بأنّه : أحد العلوم الإنسانية الهامة التي
ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر، وهو من العلوم التي تحاول الوصول إلى قوانين
وقواعد تفسّر الظواهر الاجتماعية، سواء كانت هذه الظواهر في شكل جماعات بشرية، أو
نظم ومؤسّسات اجتماعية أو إنسانية .وهو بالتالي، العلم الذي يساعد في تكيّف الفرد
والمجتمع للعيش معاً، ضمن أهداف معيّنة يسعون إلى تحقيقها، من أجل التقدّم والاستمرارية.
(عيسى، 1986، ص 13)
فعلم الاجتماع إذن، يدرس العلاقات بين الأفراد وعمليات
التفاعل فيما بينهم، وتصرّفاتهم كأعضاء مكوّنين لهذه الجماعة. فهو يركّز على
سلوكات الأفراد ضمن هذا المجتمع أو ذاك، ويدرس بالتالي تأثير البيئة الاجتماعية
(الاقتصادية والثقافية) في تكوين الشخصيّة الإنسانية، وتحديد العلاقات بين
الأفراد. (الجيوشي والشماس، 2002/2003، ص 59)
إنّ مصطلح / علم الاجتماع / مشتقّ من كلمتين، الأولى هي
(سوسيو Sociu) اللاتينية،
وتعني رفيق أو مجتمع. والثانية (لوغوس Logos) اليونانية، وتعني العلم أو البحث. وبما أنّ علم الاجتماع يتناول
التفاعل الاجتماعي عندما يدرس الجماعة، فإنّ ثمّة تداخلاً كبيراً بين علم الاجتماع
والأنثروبولوجيا، فكلاهما يدرس البناء الاجتماعي والوظائف الاجتماعية .. وهذا ما
دعا أحد العلماء إلى القول : إنّ علم الأنثروبولوجيا الاجتماعية، هو فرع من فروع
علم الاجتماع المقارن. (لطفي، 1979، ص 44 )
وهكذا نجد أنّ ثمّة صلة من نوع ما، بين علم الاجتماع
والأنثروبولوجيا، بالنظر إلى أنّ كلاًّ
منهما يدرس الإنسان. ويتجاوز الترابط بينهما
المعلومات التي يهدف كلّ منهما الحصول عليها، إلى منهجيّة البحث من حيث
طريقته وأسلوبه، إلى حدّ تسمّى الأنثروبولوجيا عنده، بعلم الاجتماع المقارن، على
الرغم أن أنّها تهتمّ بالجانب الحضاري عن الإنسان ، بينما تقترب دراسة علم الاجتماع من الأنثروبولوجيا
الاجتماعية .
فعلم الاجتماع يركّز في دراساته على المشكلات الاجتماعية في
المجتمع الواحد، كما يدرس الطبقات الاجتماعية في هذا المجتمع أو ذاك من المجتمعات الحديثة، ويندر أن يدرس
المجتمعات البدائية أو المنقرضة. بينما تركّز الأنثروبولوجيا (علم الإنسان) في
دراساتها، على المجتمعات البدائية / الأولية، وأيضاً المجتمعات المتحضّرة /
المعاصرة.
ولكنّ دراسة الأنثروبولوجيا للمجتمعات الإنسانية، تتركّز في
الغالب على : التقاليد والعادات والنظم، والعلاقات بين الناس، والأنماط السلوكية
المختلفة، التي يمارسها شعب ما أو أمّة معيّنة. (أبو هلال، 1974، ص 1) أي أنّ علم
الأنثربولوجيا الاجتماعية يدرس الحياة الاجتماعية (المجتمع ككلّ )، وينظر إليها
نظرة شاملة، ويدرس البيئة العامة، والعائلة ونظم القرابة والدين، بينما تكون دراسة
علم الاجتماع متخصّصة إلى حدّ بعيد. حيث يقتصر على دراسة ظواهر محدّدة أو مشكلات
معيّنة، أو مشكلات قائمة بذاتها، كمشكلات : الأسرة والطلاق والجريمة، والبطالة
والإدمان والانتحار ...( لطفي، 1979، ص45)
وإذا كان ثمّة تباين أو اختلاف بين العلمين، فهو لا يتعدّى
فهم الظواهر الاجتماعية وتفسيراتها، وفق أهداف كلّ منهما. فبينما نجد أنّ الباحث
في علم الاجتماع، يعتمد على افتراضات نظرية لدراسة وضع المتغيرات الاجتماعية،
ويحاول التحقّق منها من خلال المعلومات التي يجمعها بواسطة استبيان أو استمارة
خاصة لذلك، نجد – في المقابل – أنّ الباحث
الأنثروبولوجي، يعتمد تشخيص الظاهرة استناداً إلى فهم الواقع كما هو، ومن خلال
الملاحظة المباشرة ومشاركة الأفراد في حياتهم العادية .
ثالثاً-علاقة
الأنثروبولوجيا بعلم الفلسفة
تعود كلمة (فلسفة) إلى الأصل اليوناني المكوّن من مقطعين :
(فيلو PHILO + سوفيا SOPHY) أي فيلوسوفيا PHILOSOPHY، وتعني : (حبّ الحكمة) أو محبّة الحكمة .
ولكن على الرغم من
أصلها الاشتقاقي، فقد اتّخذت عند أرسطو معنى أكثر دقّة وشمولاّ، حيث عرّفها
بأنّها: " علم المعنى الأكثر شمولاً لكلمة علم ". ويشرح ذلك بقوله :
" الفلسفة هي علم المبادىء والأسباب الأولى، غايتها البحث عن الحقيقة
برمّتها، وبأكثر أساليب الفكر نظاماً وتماسكاً ". أي أنّها : علم الوجود بما
هو موجود، أو الفكر في جوهر وجوده. ولا يمكن بلوغ هذه الغاية إلاّ بإحكام دقيق
للفكر، أي بمنهج يستند إلى مبادىء العقل. (الجيوشي،1987/1988، ص 3 )
وبالنظر إلى هذا المعنى الواسع، اختلف الفلاسفة في إعطاء معنى
دقيق للفلسفة. فقد عرّفها الطبيعيون بأنّها : البحث عن طبائع الأشياء وحقائق
الموجودات. وعرّفها بعض الفلاسفة الآخرين بأنّها : مجموعة المعلومات في عصر من
العصور. (محمود، 1968، ص 225)
وإذا كانت الفلسفة
(أم العلوم) كما كانت تسمّى، بالنظر لشمولية دراستها مجموعة من العلوم الرياضية
والإنسانية والفيزيائية، فإنّ صلة الأنثروبولوجيا بها وثيقة جدّاً، ولا سيّما فيما
يتعلّق بنظرة الإنسان إلى الكون والحياة، في زمان ما أو مكان محدّد. وذلك لأنّ
الزمان والمكان مرتبطان بعلاقة جدلية، لا يمكن إدراك مكوّناتها إلاّ من خلال دراسة
الفعل الإنساني، الذي يسعى إلى البقاء والاستمرار.
فدراسة أصل الإنسان ونشأته وحياته وسعيه إلى البقاء والخلود،
وما ينجم عن ذلك من تطوّر وتغيّر مستمرّين، كلّها تقع في ميدان الدراسات
الأنثروبولوجية، ولا سيّما تلك العلاقة الأزلية بين طبيعة الإنسان، وواقعه وما
يطمح إليه من آمال وأهداف، تؤمّن سيرورة حياته .
رابعاً-
علاقة الأنثروبولوجيا بعلم النفس
يعرّف علم النفس بأنّه : العلم الذي يهتمّ بدراسة العقل
البشري، والطبيعة البشرية، والسلوك الناتج عنهما. أي أنّه : مجموعة الحقائق التي
يتمّ الحصول عليها من وجهة النظر النفسيّة. (فراير، 1968، ص 32) وهذا يعني : أنّه العلم الذي يدرس سلوك الإنسان
بهدف فهمه وتفسيره. (عيسوي، 1989،ص 7)
ومن هذا المنطلق، يمكن القول : إنّ علم النفس ، هو العلم الذي
يدرس الإنسان من جوانب شخصيّته المختلفة، بغية الوصول إلى حقائق حولها، قد تكون
ذات صفة عامة ومطلقة، يمكن تعميمها .
ولذلك، تهتمّ الدراسات النفسيّة بالخصائص الجسميّة الموروثة،
وتحديد علاقاتها بالعوامل السلوكية لدى الفرد، ولا سيّما تلك العلاقة بين الصفات
الجسميّة العامة، وسمات الشخصيّة. مع الأخذ في الحسبان العوامل البيئيّة المحيطة
بهذه الشخصيّة .
ويميل النفسيون إلى
الاعتقاد بأهميّة هذه العوامل البيئيّة في هذه العلاقة، فالشخص القوي البنية،
والذي يميل إلى السيطرة وتولّي المراكز القياديّة، لا بدّ وأنّه تعرّض إلى خبرات
اجتماعية / نفسيّة، في أثناء طفولته ونموّه، أسهمت في إكسابه هذه السلوكات.
(الجسماني، 1994، 271 )
وإذا كانت الأنثروبولوجيا، توصف بأنّها العلم الذي يدرس
الإنسان، من حيث تطوّره وسلوكاته وأنماط حياته، فإنّ علم النفس يشارك
الأنثروبولوجيا في دراسة سلوك الإنسان. ولكنّ الخلاف بينهما، هو أنّ علم النفس
يركّز على سلوك الإنسان / الفرد، أمّا الأنثروبولوجيا فتركّز على السلوك الإنساني
بشكل عام. كما تدرس السلوك الجماعي النابع من تراث الجماعة. (ناصر، 1985، ص 21)
وعلى الرغم من أنّ علم النفس يقصر دراسته على الفرد، بينما
تركّز الأنثروبولوجيا اهتمامها على المجموعة من جهة، وعلى كلّ فرد بصفته عضواً في
هذه المجموعة من جهة أخرى، فثمّة صلة وثيقة بين العلمين. حيث اكتشف علماء النفس
أنّ الإنسان لا يعيش إلاّ في بيئة اجتماعية يؤثّر فيها ويتأثّر بها ..
وتنصبّ الدراسة في
علم النفس الاجتماعي على المحاكاة والتقليد والميول الاجتماعية، كالمشاركة
الوجدانية والتعاون والغيرية وغريزة التجمّع، إضافة إلى دراسة الاتّجاهات. فقد
صدرت دراسات خاصة بالأنثروبولوجيا السيكولوجية، التي تعنى بالظواهر السيكولوجية لبني البشر حين يعيشون في
طبقة أو جماعة، حيث أنّ الطبيعة الإنسانية من صميم علم النفس العام، كما أنّها
عامل حتمي في تكوين النظم الاجتماعية / الإنسانية. (رشوان، 1988،ص 86)
ولذلك نرى أنّ المهمّة التي تواجه الباحث الأنثروبولوجي، لا
تختلف عن تلك المهمةّ التي تواجه عالم النفس. فكلاهما عليه أن يستخلص صفات الشيء
الذي هو موضوع دراسته، من التعبير الخارجي في السلوك .. وإن كان عالم
الأنثروبولوجيا يعوّقه اضطراره إلى إدخال خطوة إضافية في مستهلّ عمله. فبينما
يستطيع عالم النفس أن يلاحظ سلوك موضوع
بحثه بصورة مباشرة، ينبغي على عالم الأنثروبولوجيا أن يبني استنتاجاته على الأنماط
المثالية للثقافة التي يتناولها بالبحث.
ولكنّ مهمّة عالم الأنثروبولوجيا في محاولاته لكشف خفايا
الأمور، تشبه مهمّة عالم النفس في الجهود التي يبذلها في سبر غور العقل الباطن.
وفي كلا الحالين، تتألّف النتائج التي يتوصّل إليها الباحثون من سلسلة تأويلات،
أمّا الحقائق التي تستند إليها هذه التأويلات، فكثيراً ما تكون قابلة لأكثر من
تفسير. (لينتون، 1964، ص 395 )
لذلك، تعدّ دراسة
الأنثروبولوجيا دراسة للأنماط السلوكية الإنسانية،
بينما تعدّ الدراسة النفسيّة دراسة للسلوك الخاص بالشخصيّة الفردية، وأن كانت
تتأثّر بالعلوم الاجتماعية .
خامساً-
علاقة الأنثروبولوجيا بعلم الجيولوجيا والجغرافيا
تساعد الدراسات الجيولوجية التاريخية في تحديد الفترات
الزمنية التي عاش فيها كلّ نموذج من أنواع الجنس البشري، نظراً لوجود البقايا
العظمية للأسلاف، على شكل بقايا مستحاثة حفرية بين ثنايا القشرة الأرضية الرسوبية
والمنضدّة بعضها فوق بعض، وفق خاصية النشوء والتقادم لكلّ منها، بحيث يكون أسفلها
أقدمها وأعلاها أحدثها .
وهذا يمكّننا من معرفة الفترة الزمنية التي عاش فيها ذلك
الإنسان الحفري، إلى جانب معرفة العالم الحيواني الآخر الذي كان يحيط به، من خلال
التعرّف إلى البقايا العظمية المستحاثية للأنواع الحيوانية التي كانت تعاصره في
بيئة جغرافية واحدة. كما أننّا نستطيع التعرّف إلى الظروف المناخية التي كانت سائدة
عندما كان يعيش هذا الإنسان أو ذاك، في تلك الأزمنة السحيقة من تاريخنا البشري
.(الجباوي، 1988، ص 12)
وكما تستفيد الأنثروبولوجيا من الدراسات الجيولوجية، تستفيد
أيضاً من المعطيات العلمية / الجغرافية، وفي مقدّمتها النواحي الطبيعية، من تضاريس
ومياه، إلى جانب الظروف المناخية التي تتفاوت من منطقة إلى أخرى، وذلك بحسب قربها –
أو بعدها- من خط الاستواء، أو من شواطىء البحار والمحيطات، أو ارتفاعها وانخفاضها عن سطح البحر.
فهذه العوامل كلّها تؤثّر في حياة الإنسان بجوانبها المختلفة،
العضوية والاجتماعية والثقافية. ولذلك، فإنّ الأحوال المعيشية والبنى الاجتماعية
عند المجتمعات البشرية، ليست متشابهة بسبب تباين الظروف الجغرافية التي توجد فيها
تلك المجتمعات. فسكان المناطق الجبلية المرتفعة يكونون في مأمن من الأخطار
الخارجية، بينما يتعرّض سكان السهول دوماً إلى غزوات واجتياحات من الشعوب أو القوى
الخارجية. وفي المقابل، يكون سكان المناطق الساحلية أكثر انفتاحاً في علاقاتهم مع
العالم الخارجي، قياساً بأهل المناطق الداخلية حيث تكون العلاقات الأسرية شبه
منغلقة على ذاتها، إلى جانب الالتزام بالعصبية القبلية. وهذا ينعكس في سلوكية السكان في هذه المنطقة أو تلك. (المرجع السابق،
ص 14)
ولذلك، يميل علماء الأنثروبولوجيا إلى إهمال ما يسمّى
بالقدرات الفطرية للشعوب الإنسانية، ويؤثرون كتابة تاريخ الحضارة في ضوء عوامل
البيئة والحظ وتسلسل الأحداث المترابطة. فهناك من يجد أنّ للمناخ أثراً في ناتج
الطاقة الإنسانية، وهناك من يعتقد بوجود علاقة بين الطقس والخمول الذي يتميّز به
سكان المناطق الحارة، أو النشاط الاندفاعي الذي يميّز سكان المناطق الباردة
والعاصفة.
وضمن هذه الرؤية، قام الدكتور (وليم بيترسن) W. Petersen في
أواسط الستينات من القرن العشرين، بإجراء تحليل دقيق للارتباط الوثيق بين الطقس
والوظائف الفيسيولوجية، وبنى دراسته على التقدّم الذي أحرزه المرضى الذين كان يشرف
على علاجهم. وتبيّن من نتائج أبحاثه، أنّ تقلّبات حالة المرضى تتبع نمطاً مشابهاً
لتراوحات الضغط البارومتري، وبدا وكأنّ الظاهرة الأولى تتأثّر بالثانية. (لينتون،
1968، ص61 )
وإذا كان من الصحيح أنّ وظائف الإنسان الفسيولوجية قابلة
للتكيّف مع أنواع البيئات المختلفة، فإنّه من السهل – في المقابل – أن نتصوّر أن
بعض جوانب البيئة، تكون أكثر أهميّة وتأثيراً
من بعضها الآخر، في مراحل معيّنة من تاريخ التطوّر الإنساني، الحضاري
والاجتماعي والثقافي ... وهذا كلّه يدخل في جوهر الدراسات الأنثروبولوجية وأهدافها
.
وهكذا، تُشكّل الأنثروبولوجيا مع العلوم الأخرى، ولا سيّما
العلوم الإنسانية، منظومة من المعارف والموضوعات التي تدور حول كائن موضوع
الدراسة، وهو الإنسان. ويأتي هذا التشابك (التكامل) بين هذه العلوم بالنظر إلى تلك
الأطر المعرفية والمناهج التحليلية، التي تنظّم العلاقة المتبادلة والمتكاملة بين
المجالات المعرفية المختلفة التي تسعى إليها هذه العلوم .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق